التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ ٱلَّذِينَ ٱعْتَدَواْ مِنْكُمْ فِي ٱلسَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ
٦٥
فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ
٦٦
وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُوۤاْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِٱللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ ٱلْجَاهِلِينَ
٦٧
-البقرة

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

{ علمتم } معناه: عرفتم، كما تقول: علمت زيداً بمعنى عرفته، فلا يتعدى العلم إلا إلى مفعول واحد، و { اعتدوا } معناه تجاوزوا الحد، مصرف من الاعتداء، و { في السبت } معناه في يوم السبت، ويحتمل أن يريد في حكم السبت، و { السبت } مأخوذ إما: من السبوت الذي هو الراحة والدعة، وإما من السبت وهو: القطع، لأن الأشياء فيه سبتت وتمت خلقتها.
وقصة اعتدائهم فيه، أن الله عز وجل أمر موسى عليه السلام بيوم الجمعة، وعرفه فضله، كما أمر به سائر الأنبياء، فذكر موسى عليه السلام ذلك لبني إسرائيل عن الله تعالى وأمرهم بالتشرع فيه، فأبوا وتعدوه إلى يوم السبت، فأوحى الله إلى موسى أن دعهم وما اختاروا من ذلك، وامتحنهم فيه بأن أمرهم بترك العمل وحرم عليهم صيد الحيتان، وشدد عليهم المحنة بأن كانت الحيتان تأتي يوم السبت حتى تخرج إلى الأفنية. قاله الحسن بن أبي الحسن. وقيل حتى تخرج خراطيمها من الماء، وذلك إما بالإلهام من الله تعالى، أو بأمر لا يعلل، وإما بأن فهمها معنى الأمنة التي في اليوم مع تكراره حتى فهمت ذلك، ألا ترى أن الله تعالى قد ألهم الدواب معنى الخوف الذي في يوم الجمعة من أمر القيامة، يقضي بذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: "وما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة فرقاً من الساعة"، وحمام مكة قد فهم الأمنة، إما أنها متصلة بقرب فهمها.
وكان أمر بني إسرائيل بأيلة على البحر، فإذا ذهب السبت ذهبت الحيتان فلم تظهر إلى السبت الآخر، فبقوا على ذلك زماناً حتى اشتهوا الحوت، فعمد رجل يوم السبت فربط حوتاً بخزمة، وضرب له وتداً بالساحل، فلما ذهب السبت جاءَ وأخذه، فسمع قوم بفعله فصنعوا مثل ما صنع، وقيل بل حفر رجل في غير السبت حفيراً يخرج إليه البحر، فإذا كان يوم السبت خرج الحوت وحصل في الحفير، فإذا جزر البحر ذهب الماء من طريق الحفير وبقي الحوت، فجاء بعد السبت فأخذه، ففعل قوم مثل فعله، وكثر ذلك حتى صادوه يوم السبت علانية، وباعوه في الأسواق، فكان هذا من أعظم الاعتداء، وكانت من بني إسرائيل فرقة نهت عن ذلك فنجت من العقوبة، وكانت منهم فرقة لم تعص ولم تنه، فقيل نجت مع الناهين، وقيل هلكت مع العاصين.
و { كونوا } لفظة أمر، وهو أمر التكوين، كقوله تعالى لكل شيء:
{ { كن فيكون } [النحل: 40 مريم: 35، يس: 82، غافر: 68]، ولم يؤمروا في المصير إلى حال المسخ بشيء يفعلونه ولا لهم فيه تكسب.
و { خاسئين } معناه مبعدين أذلاء صاغرين، كما يقال للكلب وللمطرود اخساً. تقول خسأته فخسأ، وموضعه من الإعراب النصب على الحال أو على خبر بعد خبر.
وروي في قصصهم أن الله تعالى مسخ العاصين { قردة } بالليل فأصبح الناجون إلى مساجدهم ومجتمعاتهم، فلم يروا أحداً من الهالكين، فقالوا إن للناس لشأناً، ففتحوا عليهم الأبواب كما كانت مغلقة بالليل، فوجدوهم { قردة } يعرفون الرجل والمرأة، وقيل: إن الناجين كانوا قد قسموا بينهم وبين العاصين القرية بجدار، تبرياً منهم، فأصبحوا ولم تفتح مدينة الهالكين، فتسوروا عليهم الجدار فإذا هم قردة، يثب بعضهم على بعض.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم وثبت عن أن الممسوخ لا ينسل ولا يأكل ولا يشرب ولا يعيش أكثر من ثلاثة أيام؛ ووقع في كتاب مسلم عنه عليه السلام أن أمة من الأمم فقدت، وأراها الفأر، وظاهر هذا أن الممسوخ ينسل، فإن كان أراد هذا فهو ظن منه عليه السلام في أمر لا مدخل له في التبليغ، ثم أوحي إليه بعد ذلك أن الممسوخ لا ينسل، ونظير ما قلناه نزوله عليه السلام على مياه بدر، وأمره باطراح تذكير النخل، وقد قال صلى الله عليه وسلم:
"إذا أخبرتكم برأي في أمور الدنيا فإنما أنا بشر" .
وروي عن مجاهد في تفسير هذه الآية أنه إنما مسخت قلوبهم فقط وردّت أفهامهم كأفهام القردة، والأول أقوى، والضمير في { جعلناها }: يحتمل العود على المسخة والعقوبة، ويحتمل على الأمة التي مسخت، ويحتمل على القردة، ويحتمل على القرية إذ معنى الكلام يقتضيها، وقيل يعود على الحيتان، وفي هذا القول بعد.
والنكال: الزجر بالعقاب، والنكل والأنكال: قيود الحديد، فالنكال عقاب ينكل بسببه غير المعاقب عن أن يفعل مثل ذلك الفعل، قال السدي: ما بين يدي المسخة: ما قبلها من ذنوب القوم، { وما خلفها }: لمن يذنب بعدها مثل تلك الذنوب، وهذا قول جيد، وقال غيره: "ما بين يديها" أي من حضرها من الناجين، { وما خلفها } أي لمن يجيء بعدها، وقال ابن عباس: { لما بين يديها }: أي من بعدهم من الناس ليحذر ويتقي، { وما خلفها }: لمن بقي منهم عبرة.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وما أراه يصح عن ابن عباس رضي الله عنه، لأن دلالة ما بين اليد ليست كما في القول، وقال ابن عباس أيضاً: { لما بين يديها وما خلفها }، أي من القرى، فهذا ترتيب أجرام لا ترتيب في الزمان.
{ وموعظة } مفعلة من الاتعاظ والازدجار، { وللمتقين } معناه للذين نهوا ونجوا، وقالت فرقة: معناه لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، واللفظ يعم كل متق من كل أمة.
وقوله تعالى: { وإذ قال موسى لقومه } الآية: { إذ } عطف على ما تقدم، والمراد تذكيرهم بنقض سلفهم للميثاق، وقرأ أبو عمرو "يأمرْكم" بإسكان الراء، وروي عنه اختلاس الحركة، وقد تقدم القول في مثله في "بارئكم".
وسبب هذه الآية على ما روي، أن رجلاً من بني إسرائيل أسنّ وكان له مال، فاستبطأ ابن أخيه موته، وقيل أخوه، وقيل ابنا عمه، وقيل ورثة كثير غير معينين، فقتله ليرثه وألقاه في سبط آخر غير سبطه، ليأخذ ديته ويلطخهم بدمه، وقيل: كانت بنو إسرائيل في قريتين متجاورتين، فألقاه إلى باب إحدى المدينتين، وهي التي لم يقتل فيها، ثم جعل يطلبه هو وسبطه حتى وجده قتيلاً، فتعلق بالسبط أو بسكان المدينة التي وجد القتيل عندها، فأنكروا قتله، فوقع بين بني إسرائيل في ذلك لحاء حتى دخلوا في السلاح، فقال أهل النهي منهم: أنقتل ورسول الله معنا؟ فذهبوا إلى موسى عليه السلام فقصوا عليه القصة، وسألوه البيان، فأوحى الله إليه أن يذبحوا بقرة فيضرب القتيل ببعضها، فيحيى ويخبر بقاتله فقال لهم: { إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة }، فكان جوابهم أن قالوا: { أتتخذنا هزواً }؟ قرأ الجحدري "أيتخذنا" بالياء، على معنى أيتخذنا الله، وقرأ حمزة: "هزْؤاً" بإسكان الزاي والهمز، وهي لغة، وقرأ عاصم بضم الزاي والهاء والهمز، وقرأ أيضاً: دون همز "هزواً"، حكاه أبو علي، وقرأت طائفة من القراء بضم الهاء والزاء والهمزة بين بين، وروي عن أبي جعفر وشيبة ضم الهاء وتشديد الزاي "هُزّاً"، وهذا القول من بني إسرائيل ظاهره فساد اعتقاد ممن قاله، ولا يصح الإيمان ممن يقول لنبي قد ظهرت معجزاته، وقال: { إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة }، { أتتخذنا هزواً }، ولو قال ذلك اليوم أحد عن بعض أقوال النبي صلى الله عليه وسلم لوجب تكفيره، وذهب قوم إلى أن ذلك منهم على جهة غلظ الطبع والجفاء والمعصية، على نحو ما قال القائل للنبي صلى الله عليه وسلم في قسمة غنائم حنين: "إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله"، وكما قال له الآخر: "اعدل يا محمد"، وكلٌّ محتمل، والله أعلم.
وقول موسى عليه السلام: { أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين }، يحتمل معنيين: أحدهما الاستعاذة من الجهل من أن يخبر الله تعالى مستهزئاً، والآخر من الجهل كما جهلوا في قولهم { أتتخذنا هزواً } لمن يخبرهم عن الله تعالى.