التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ ٱللَّهَ وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ
٨٣
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَآءَكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ
٨٤
-البقرة

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

المعنى: "واذكروا إذ أخذنا"، وقال مكيرحمه الله : "هذا هو الميثاق الذي أخذ عليهم حين أخرجوا من صلب آدم كالذر"، وهذا ضعيف، وإنما هو ميثاق أخذ عليهم وهم عقلاء في حياتهم على لسان موسى عليه السلام وغيره من أنبيائهم عليهم السلام، وأخذ الميثاق قول، فالمعنى قلنا لهم { لا تعبدون }، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي "لا يعبدون" بالياء من أسفل، وقرأ الباقون بالتاء من فوق، حكاية ما قيل لهم، وقرأ أبي بن كعب وابن مسعود "لا تعبدوا" على النهي. قال سيبويه: { لا تعبدون } متعلق لقسم، والمعنى وإذ استخلفناكم والله لا تعبدون، وقالت طائفة: تقدير الكلام بأن لا تعبدوا إلا الله، ثم حذفت الباء ثم حذفت أن فارتفع الفعل لزوالها، { فلا تعبدون } على هذا معمول لحرف النصب، وحكي عن قطرب أن { لا تعبدون إلا الله } في موضع الحال أي أخذنا ميثاقهم موحدين، وهذا إنما يتجه على قراءة ابن كثير، ونظام الآية يدفعه مع كل قراءة، وقال قوم { لا تعبدون إلا الله } نهي في صيغة خبر، ويدل على ذلك أن في قراءة أبي لا تعبدوا.
والباء في قوله { وبالوالدين } قيل هي متعلقة بالميثاق عطفاً على الباء المقدرة أولاً على قول من قال التقدير بأن لا تعبدوا، وقيل: تتعلق بقوله و { إحساناً } والتقدير قلنا لهم لا تعبدون إلا الله، وأحسنوا إحساناً بالوالدين ويعترض هذا القول بأن المصدر قد تقدم عليه ما هو معمول له، وقيل تتعلق الباء بأحسنوا المقدر والمعنى وأحسنوا بالوالدين إحساناً، وهذا قول حسن، وقدم اللفظ { وبالوالدين } تهمماً فهو نحو قوله تعالى { إياك نعبد } [الفاتحة:5] وفي الإحسان تدخل أنواع بر الوالدين كلها، { وذي القربى } عطف على الوالدين، و { القربى } بمعنى القرابة، وهو مصدر كالرجعى والعقبى، وهذا يتضمن الأمر بصلة الرحم، { واليتامى }: جمع يتيم كنديم وندامى، واليتم في بني آدم فقد الأب، وفي البهائم فقد الأم، وقال عليه السلام: "لا يتم بعد بلوغ"، وحكى الماوردي أن اليتيم في بني آدم في فقد الأم، وهذا يتضمن الرأفة باليتامى وحيطة أموالهم، { والمساكين }: جمع مسكين وهو الذي لا شيء له، لأنه مشتق من السكون وقد قيل: إن المسكين هو الذي له بلغة من العيش، وهو على هذا مشتق من السكن، وهذا يتضمن الحض على الصدقة والمواساة وتفقد أحوال المساكين.
وقوله تعالى: { وقولوا للناس حسناً }، أمر عطف على ما تضمنه { لا تعبدون إلا الله } وما بعده من معنى الأمر والنهي، أو على أحسنوا المقدر في قوله { وبالوالدين }، وقرأ حمزة والكسائي "حَسَناً" بفتح الحاء والسين، قال الأخفش: هما بمعنى واحد كالبخل والبخل، قال الزجاج وغيره: بل المعنى في القراءتين وقولوا قولاً حسناً بفتح السين أو قولاً ذا "حُسن" بضم الحاء، وقرأ قوم "حسنى" مثل فعلى، ورده سيبويه لأنه أفعل وفعلى لا تجيء إلا معرفة إلا أن يزال عنها معنى التفضيل وتبقى مصدراً كالعقبى، فذلك جائز، وهو وجه القراءة بها، وقرأ عيسى بن عمر وعطاء بن أبي رباح "حُسُناً" بضم الحاء والسين، وقال ابن عباس: معنى الكلام قولوا لهم لا إلا إلا الله ومروهم بها، وقال ابن جريج: قولوا لهم حسناً في الإعلام بما في كتابكم من صفة محمد صلى الله عليه وسلم، وقال سفيان الثوري: معناه مروهم بالمعروف وانهوهم عن المنكر، وقال أبو العالية: معناه قولوا لهم الطيب من القول وحاوروهم بأحسن ما تحبون أن تحاوروا به، وهذا حض على مكارم الأخلاق، وحكى المهدوي عن قتادة أن قوله تعالى { وقولوا للناس حسناً }: منسوخ بآية السيف.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وهذا على أن هذه الأمة خوطبت بمثل هذا اللفظ في صدر الإسلام، وأما الخبر عن بني إسرائيل وما أمروا به فلا نسخ فيه، وقد تقدم القول في إقامة الصلاة، وزكاتهم هي التي كانوا يضعونها وتنزل النار على ما تقبل ولا تنزل على ما لم يتقبل، ولم تكن كزكاة أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: "الزكاة التي أمروا بها طاعة الله والإخلاص".
وقوله تعالى: { ثم توليتم } الآية خطاب لمعاصري محمد صلى الله عليه وسلم أسند إليهم تولي أسلافهم، إذ هم كلهم بتلك السبيل، قال نحوه ابن عباس وغيره، و { ثم } مبنية على الفتح ولم تجر مجرى رد وشد لأنها لا تتصرف، وضمت التاء الأخيرة من { توليتم } لأن تاء المفرد أخذت الفتح وتاء المؤنث أخذت الكسر فلم يبق للتثنية والجمع إلا الضم، و { قليلاً } نصب على الاستثناء قال سيبويه: المستثنى منصوب على التشبيه بالمفعول به، قال المبرد: هو مفعول حقيقة لأن تقديره استثنيت كذا، والمراد بالقليل جميع مؤمنيهم قديماً من أسلافهم وحديثاً كابن سلام وغيره، والقلة على هذا هي في عدد الأشخاص، ويحتمل أن تكون القلة في الإيمان أي لم يبق حين عصوا وكفر آخرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم إلا إيمان قليل، إذ لا ينفعهم، والأول أقوى، وقرأ قوم "إلا قليلٌ" برفع القليل، ورويت عن أبي عمرو، وهذا على بدل قليل من الضمير في { توليتم }، وجاز ذلك مع أن الكلام لم يتقدم فيه نفي لأن { توليتم } معناه النفي كأنه قال ثم لم تفوا بالميثاق إلا قليل، والسفك صب الدم وسرد الكلام، وقرأ طلحة بن مصرف وشعيب ابن أبي حمزة "لا تسفُكون" بضم الفاء، وقرأ أبو نهيك "تُسفِّكون" بضم التاء وكسر الفاء وتضعيفها، وإعراب { لا تسفكون } كما تقدم في { لا تعبدون }، و { دماءكم } جمع دم، وهو اسم منقوص أصله دمي، وتثنيته دميان، وقيل أصله دمْي بسكون الميم، وحركت في التثنية لتدل الحركة على التغيير الذي في الواحد.
وقوله تعالى { ولا تخرجون أنفسكم من دياركم } معناه ولا ينفي بعضكم بعضاً بالفتنة والبغي، ولما كانت ملتهم واحدة وأمرهم واحداً وكانوا في الأمم كالشخص الواحد، جعل قتل بعضهم لبعض ونفي بعضهم بعضاً قتلاً لأنفسهم ونفياً لها، وكذلك حكم كل جماعة تخاطب بهذا اللف في القول، وقيل { لا تسفكون دماءكم } أي لا يقتل أحد فيقتل قصاصاً، فكأنه سفك دم نفسه لما سبب ذلك ولا يفسد في الأرض فينفى فيكون قد أخرج نفسه من دياره، وهذا تأويل فيه تكلف، وإنما كان الأمر أن الله تعالى قد أخذ على بني إسرائيل في التوراة ميثاقاً أن لا يقتل بعضهم بعضاً ولا ينفيه ولا يسترقه ولا يدعه يسترق إلى غير ذلك من الطاعات.
وقوله تعالى { ثم أقررتم } أي خلفاً بعد سلف أن هذا الميثاق أخذ عليكم والتزمتموه فيتجه في هذه اللفظة أن تكون من الإقرار الذي هو ضد الجحد وتتعدى بالباء، وأن تكون من الإقرار الذي هو إبقاء الأمر على حاله، أي أقررتم هذا الميثاق ملتزماً.
وقوله { وأنتم تشهدون } قيل الخطاب يراد به من سلف منهم والمعنى وأنتم شهود أي حضور أخذ الميثاق والإقرار، وقيل إن المراد من كان في مدة محمد صلى الله عليه وسلم، والمعنى وأنتم شهداء أي بينة أن هذا الميثاق أخذ على أسلافكم فمن بعدهم.