التفاسير

< >
عرض

وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَىٰ
٩
إِذْ رَأَى نَاراً فَقَالَ لأَهْلِهِ ٱمْكُثُوۤاْ إِنِّيۤ آنَسْتُ نَاراً لَّعَلِّيۤ آتِيكُمْ مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى ٱلنَّارِ هُدًى
١٠
فَلَمَّآ أَتَاهَا نُودِيَ يٰمُوسَىٰ
١١
إِنِّيۤ أَنَاْ رَبُّكَ فَٱخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِٱلْوَادِ ٱلْمُقَدَّسِ طُوًى
١٢
وَأَنَا ٱخْتَرْتُكَ فَٱسْتَمِعْ لِمَا يُوحَىۤ
١٣
إِنَّنِيۤ أَنَا ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاۤ أَنَاْ فَٱعْبُدْنِي وَأَقِمِ ٱلصَّلاَةَ لِذِكْرِيۤ
١٤
-طه

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

هذا الأستفهام هو توقيف مضمنه تنبيه النفس إلى استماع ما يورد عليها، وهذا كما تبدأ الرجل إذا أدرت إخباره بأمر غريب فتقول أعلمت كذا وكذا، ثم تبدأ تخبره. والعامل في { إذ } ما تضمنه قوله { حديث } من معنى الفعل، وتقديره { وهل أتاك } ما فعل موسى { إذ رأى ناراً } أو نحو هذا، وكان من قصة موسى عليه السلام أنه رحل من مدين بأهله بنت شعيب وهو يريد أرض مصر وقد طالت مدة جنايته هنالك فرجاً عن طريقه في ليلة مظلمة وندية ويروى أنه فقد الماء فلم يدر أين يطلبه فبينما هو كذلك وقد قدح بزنده فلم يور شيئاً { إذ رأى ناراً فقال لأهله امكثوا } أي أقيموا، وذهب هو إلى النار فإذا هي مضطرمة في شجرة خضراء يانعة قيل كانت من عناب، وقيل من عوسج، وقيل من عليقة، فلما دنا منها تباعدت منه ومشت، فإذا رجع عنها اتبعته فلما رأى ذلك أيقن أن هذا أمر من أمور الله تعالى الخارقة للعادة، وانقضى أمره كله في تلك الليلة، هذا قول الجمهور وهوالحق، وحكى النقاش عن ابن عباس أنه قال: أقام في ذلك الأمر حولاً ومكثه أهله ع: وهذا غير صحيح عن ابن عباس وضعيف في نفسه. و { آنست } معناه أحسست ومنه قول الحارث بن حلزة: [الخفيف]

آنست نبأة وروعها القَنْــــ ناص ليلاً وقد دنا الإمساء

والنار على البعد لا تحس إلا بالأبصار، فلذلك فسر بعضهم اللفظ برأيت، و"آنس" أعم من { رأى } لأنك تقول آنست من فلان خيراً أو شراً. و"القبس" الجذوة من النار تكون على رأس العود أو القصبة أو نحوه، و"الهدى" أراد الطريق، أي لعلي أجد ذا هدى أي مرشداً لي أو دليلا، وان لم يكن مخبراً. و"الهدى" يعم هذا كله وإنما رجا موسى عليه السلام هدى نازلته فصادف الهدى على الإطلاق، وفي ذكر قصة موسى بأسرها في هذه السورة تسلية للنبي عما لقي في تبليغه من المشقات وكفر الناس فإنما هي له على جهة التمثيل في أمره. وروي عن نافع وحمزة "لأهلهُ امكثوا" بضمة الهاء وكذلك في القصص، وكسر الباقون الهاء فيهما. وقوله تعالى { فلما أتاها } الضمير عائد على النار، وقوله { نودي } كناية عن تكليم الله له، وفي { نودي } ضمير يقوم مقام الفاعل، وإن شئت جعلته موسى إذ قد جرى ذكره، وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي "إني" بكسر الألف على الإبتداء، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو "أني" بفتح الألف على معنى "لأجل أني" { أنا ربك فاخلع نعليك }، و { نودي } قد توصل بحرف الجر وأنشد أبو علي: [الكامل]

ناديت باسم ربيعة بن مكدم ان المنوه باسمه الموثوق

واختلف المتأولون في السبب الذي من أجله أمر بخلع النعلين، فقالت فرقة كانتا من جلد حمار ميت فأمر بطرح النجاسة، وقالت فرقة بل كانت نعلاه من جلد بقرة ذكي لكن أمر بخلعها لينال بركة الوادي المقدس وتمس قدماه تربة الوادي، وتحتمل الآية معنى آخر هو الأليق بها عندي، وذلك أن الله تعالى أمره أن يتواضع لعظم الحال التي حصل فيها، والعرف عند الملوك أن تخلع النعلان ويبلغ الإنسان إلى غاية تواضعه، فكأن موسى عليه السلام أمر بذلك على هذا الوجه، ولا نبالي كانت نعلاه من ميتة أو غيرها، و { المقدس } معناه المطهر، و { طوى } معناه مرتين مرتين، فقالت فرقة معناه قدس مرتين، وقالت فرقة معناه طويته أنت، أي سرت به، أي طويت لك الأرض مرتين من طيك، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي "طوىً" بالتنوين على أنه اسم المكان، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو "طوى" على أنه اسم البقعة دون تنوين، وقرأ هؤلاء كلهم بضم الطاء، وقرأ أبو زيد عن أبي عمرو بكسر الطاء، وقرأت فرقة "طاوي" وقالت فرقة هو اسم الوادي، و"طوى" على التأويل الأول بمنزلة قولهم ثنى وثنى أي مثنياً، وقرأ السبعة غير حمزة "وأنا اخترتك" ويؤيد هذه القراءة تناسبها مع قوله { أنا ربك } وفي مصحف أبي بن كعب "وأني اخترتك"، وقرأ حمزة "وأنّا اخترناك" بالجمع وفتح الهمزة وشد النون، والآية على هذا بمنزلة قوله { { سبحان الذي أسرى بعبده } [الأسراء: 1] ثم قال { { وآتينا } [الإسراء: 2] فخرج من إفراد إلى جمع، وقرأت فرقة وإنا اخترناك" يكسر الألف.
قال القاضي أبو محمد: وحدثني أبي رضي الله عنه قال: سمعت أبا الفضل بن الجوهري يقول: لما قيل لموسى { فاستمع } وقف على حجر، واستند إلى حجر، ووضع يمينه على شماله وألقى ذقنه على صدره، ووقف يستمع وكان كل لباسه وصوفاً. وقرأت فرقة "بالواد المقدس طاوي" وقوله { وأقم الصلاة لذكري } يحتمل أن يريد لتذكيري فيها أو يريد لأذكرك في عليين بها فالمصدر على هذا يحتمل الإضافة إلى الفاعل أو إلى المفعول واللام لام السبب، وقالت فرقة معنى قوله { لذكري } أي عند ذكري إذا ذكرتني وأمري لك بها، فاللام على هذا بمنزلتها في قوله
{ { أقم الصلاة لدلوك الشمس } [الإسراء: 78] وقرأت فرقة "للذكرى"، وقرأت فرقة "لذكرى" بغير تعريف، وقرأت فرقة "للذكر".