التفاسير

< >
عرض

يٰبَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ مِّنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ ٱلطُّورِ ٱلأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ ٱلْمَنَّ وَٱلسَّلْوَىٰ
٨٠
كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَىٰ
٨١
وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ثُمَّ ٱهْتَدَىٰ
٨٢
-طه

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

ظاهر هذه الآية أن هذا القول قيل لبني إسرائيل حينئذ عند حلول هذه النعم التي عدد الله تعالى عليهم، وبين خروجهم من البحر وبين هذه المقالة مدة وحوادث ولكن يخص الله تعالى بالذكر ما يشاء من ذلك. ويحتمل أن تكون هذه المقالة خوطب بها معاصرو رسول الله صلى الله عليه وسلم، المعنى هذا فعلنا بأسلافكم ويكون قوله تعالى: { كلوا } بتقدير قيل لهم كلوا، وتكون الآية على هذا اعتراضاً في أثناء قصة موسى المقصد به توبيخ هؤلاء الحضور إذ لم يصبر سلفهم على أداء شكر نعم الله تعالى، والمعنى الأول أظهر وأبين. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر "نجينا وواعدنا ونزلنا ورزقناكم" إلا أن أبا عمرو قرأ "وعدناكم" بغير ألف في كل القرآن، وقرأ حمزة والكسائي "أنجيت وواعدت ونزلنا ورزقتكم". وقوله { وواعدناكم } قيل هي لغة في وعد لا تقتضي فعل اثنين ع وإن حملت على المعهود فلأن التلقي والعزم على ذلك كالمواعدة، وقصص هذه الآية أن الله تعالى لما أنجى بني إسرائيل وغرق فرعون وعد بني إسرائيل وموسى أن يصيروا إلى جانب طور سيناء ليكلم فيه موسى ويناجيه بما فيه صلاحهم بأوامرهم ونواهيم، فلما أخذوا في السير تعجل موسى عليه السلام للقاء ربه حسبما يأتي ذكره، وقالت فرقة هذا { الطور } هو الذي كلم فيه موسى اولاً حيث رأى النار وكان في طريقه من الشام إلى مصر، وقالت فرقة ليس به و { الطور } الجبل الذي لا شعرا فيه وقوله { الأيمن } إما أن يريد اليمن وإما ان يريد اليمين بالإضافة إلى ذي يمين إنسان أو غيره. و { المن والسلوى } طعامهم، وقد مضى في البقرة استيعاب تفسيرهما، وقوله تعالى: { من طيبات } يريد الحلال الملذ لأن المعنى في هذا الموضع قد جمعهما واختلف الناس ما القصد الأول بلفظة الطيب في القرآن، فقال مالكرحمه الله الحلال، وقال الشافعي ما يطيب للنفوس، وساق إلى هذا الخلاف تفقههم في الخشاش والمستقذر من الحيوان. و { تطغوا } معناه تتعدون الحد وتتعسفون كالذي فعلوا ع. وقرأ جمهور الناس "فيحِل" بكسر الحاء "ومن يحلِل" بكسر اللام، وقرأ الكسائي وحده "فيحُل" بضم الحاء "ومن يحلُل" بضم اللام فمعنى الأول فيجب ومعنى الثاني فيقع وينزل، و { هوى } معناه سقط من علو إلى أسفل ومنه قول خنافر:

فهوى هوي العقاب

قال القاضي أبو محمد: وإن لم يكن سقوطاً فهو شبيه بالساقط والسقوط حقيقة قول الآخر: [الوافر]

هويّ الدلْو أسلمه الرشاء

ويشبه الذي وقع في طامة أو ورطة بعد أن كان بنجوة منها بالساقط فالآية من هذا أي "هوي" في جهنم وفي سخط الله، وقيل أخذ الفعل من لفظ الهاوية وهو قعر جهنم، ولما حذر لله تعالى غضبه والطغيان في نعمه فتح باب الرجاء للتائبين، والتوبة فرض على جميع الناس بقوله تعالى في سورة النور: { { وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون } [النور: 31]. والناس فيه على مراتب إما مواقع الذنب وقدرته على ذلك باقية فتوبته الندم على ما مضى والإقلاع التام عن مثله في المستقبل، وإما الذي واقع الذنب ثم زالت قدرته عن مواقعته لشيخ أو آفة فتوبته الندم واعتقاد الترك أن لو كانت قدوة، وأما لم يواقع ذنباً فتوبته العزم على ترك كل ذنب والتوبة من ذنب تصح مع الإقامة على غيره وهي توبة مقيدة، وإذا تاب المرء ثم عاود الذنب بعد مدة فيحتمل عند حذاق أهل السنة أن لا يعيد الله تعالى عليه الذنب الأول لأن التوبة قد كانت مجبة، ويحتمل أن يعيده لأنها توبة لم يواف بها، واضطرب الناس في قوله { ثم اهتدى } من حيث وجدوا الهدى ضمن الإيمان والعمل، فقالت فرقة معناه لم يشك في إيمانه، وقالت فرقة معناه ثم استقام، وقالت فرقة معناه ثم لزم الإسلام حتى يموت عليه، وقالت فرقة ثم اخذ بسنة نبيه، وقالت فرقة معناه أمر بسنته، وقالت فرقة معناه والى أهل البيت ع وهذه كلها تخصيص واحد منها دون ما هو من نوعه بعيد ليس بالقوي، والذي يقوى في معنى { ثم اهتدى } أن يكون ثم حفظ معتقداته من أن يخالف الحق في شيء من الأشياء فإن الاهتداء على هذا الوجه غير الإيمان وغير العمل، ورب مؤمن عمل صالحاً قد أوبقه عدم الاهتداء كالقدرية والمرجئة وسائر أهل البدع والخوارج فمعنى { ثم اهتدى } ثم مشى في عقائد الشرع على طريق قويم جعلنا الله منهم بمنه ع وفي حفظ المعتقدات ينحصر عظم أمر الشرع.