التفاسير

< >
عرض

وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ
٣
كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ
٤
يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ ٱلْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي ٱلأَرْحَامِ مَا نَشَآءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوۤاْ أَشُدَّكُمْ وَمِنكُمْ مَّن يُتَوَفَّىٰ وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ ٱلْعُمُرِ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى ٱلأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا ٱلْمَآءَ ٱهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ
٥
ذٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِـي ٱلْمَوْتَىٰ وَأَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٦
وَأَنَّ ٱلسَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ ٱللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي ٱلْقُبُورِ
٧
ومِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ
٨
ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ لَهُ فِي ٱلدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ عَذَابَ ٱلْحَرِيقِ
٩
ذٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ ٱللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّٰمٍ لِّلعَبِيدِ
١٠
-الحج

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

{ وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ ياأَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَآءُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُواْ أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً }
قوله تعالى { ومن الناس } الآية، قال ابن جريح نزلت في النضر بن الحارث وأبي بن خلف وقيل في أبي جهل بن هشام ثم هي بعد تتناول كل من اتصف بهذه الصفة، و"المجادلة" المحاجة والموادة مؤخوذة من الجدل وهو الفتل والمعنى في قدرة الله تعالى وصفاته، وكان سبب الآية كلام من ذكر وغيرهم في أن الله تعالى لا يبعث الموتى ولايقيم الأجساد من القبور، و"الشيطان" هنا هو مغويهم من الجن ويحتمل أن يكون الشيطان من الإنس والإنحاء على متبعيه و"المريد" المتجرد من الخير للشر ومنه الأمرد، وشجرة مردى أي عارية من الورق، وصرح ممرد أي مملس من زجاج، وصخرة مرداء أي ملساء. والضمير في { عليه } عائد على الشيطان قاله قتادة ويحتمل أن يعود على المجادل و { أنه } في موضع رفع على المفعول الذي لم يسم فاعله و { أنه } الثانية عطف على الأولى مؤكدة مثلها وقيل هي مكررة للتأكيد فقط وهذا معترض بأن الشيء لا يؤكد إلا بعد تمامه وتمام "أن" الأولى إنما هو بصلتها في قوله { السعير } وكذلك لا يعطف ولسيبويه في مثل هذا { أنه } بدل، وقيل { أنه } خبر ابتداء محذوف تقديره فشأنه أنه يضله وقدره أبو علي فله أن يضله.
قال القاضي أبو محمد: ويظهر لي أن الضمير في { أنه } الأولى للشيطان وفي الثانية لمن الذي هو المتولي، وقوله { يهديه } بمعنى يدله على طريق ذلك وليست بمعنى الإرشاد على الإطلاق، وقرأ أبو عمرو "إنه من تولاه فإنه يضله" بالكسر فيهما، وقوله تعالى: { يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث } الآية هذا احتجاج على العالم بالبداءة الأولى وضرب الله تعالى في هذه الآية مثلين إذا اعتبرهما الناظر جوز في العقل البعثة من القبور، ثم ورد خبر الشرع بوجوب ذلك ووقوعه، و"الريب" الشك، وقوله تعالى: { إن كنتم } شرط مضمنه التوفيق، وقرأ الحسن بن أبي الحسن "البعَث" بفتح العين وهي لغة في البعث عند البصريين وهي عند الكوفيين تخفيف بعث وقوله تعالى: { فإنا خلقناكم من تراب } يريد آدم ثم سلط الفعل عليهم من حيث هم من ذريته، وقوله تعالى: { ثم من نطفة } يريد المني الذي يكون من البشر، و"النطفة" تقع على قليل الماء وكثيره، وقال النقاش المراد { نطفة } آدم، وقوله تعالى: { ثم من علقة }، يريد من الدم تعود النطفة إليه في الرحم أو المقارن للنطفة، والعلق، الدم العبيط وقيل العلق، الشديد الحمرة فسمي الدم لذلك، وقوله تعالى: { ثم من مضغة } يريد بضعة لحم على قدر ما يمضغ، وقوله تعالى: { مخلقة } معناه متممة البنية، { وغير مخلقة } غير متممة أي التي تستسقط قاله مجاهد وقتادة والشعبي وأبو العالية فاللفظة بناء مبالغة من خلق ولما كان الإنسان فيه أعضاء متباينة وكل واحد منها مختص بخلق حسن في جملته تضعيف الفعل لأن فيه خلقاً كثيرة، وقرأ ابن أبي عبلة "مخلقةً" بالنصب "وغيرَ" بالنصب في الراء ويتصل بهذا الموضوع من الفقه أن العلماء اختلفوا في أم الولد اذا أسقطت مضغة لم تصور هل تكون أم ولد بذلك فقال مالك والأوزاعي وغيرهما: هي أم ولد بالمضغة إذا علم أنها مضغة الولد، وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا حتى يتبين فيه خلق ولو عضو واحد، وقوله تعالى: { لنبين } قالت فرقة معناه لنبين أمر البعث فهو اعتراض بين الكلامين، وقرأت هذه الفرقة بالرفع في "نقرُّ"، المعنى ونحن نقر وهي قراءة الجمهور، وقالت فرقة { لنبين } معناه بكون المضغة غير مخلقة وطرح النساء إياها كذلك نبين للناس أن المناقل في الرحم هي هكذا، وقرأت هذه الفرقة "ونقرَّ" بالنصب وكذلك قرأت "ونخرجَكم" بالنصب وهي رواية المفضل عن عاصم، وحكى أبو عمرو الداني أن رواية المفضل هذه هي بالياء في "يقر" وفي "يخرجكم" والرفع على هذا التأويل سائغ ولا يجوز النصب على التأويل الأول، وقرأ ابن وثاب "ما نِشاء" بكسر النون، و"الأجل المسمى" هو مختلف بحسب جنين جنين فثم من يسقط وثم من يكمل أمره ويخرج حياً، وقوله تعالى: { طفلاً } اسم الجنس أي أطفالاً، واختلف الناس في "الأشد" من ثمانية عشر إلى ثلاثين، إلى اثنين وثلاثين، إلى ستة وثلاثين، إلى أربعين، إلى خمسة وأربعين، واللفظ تقال بإشتراك، فأشد الانسان على العموم غير أشد اليتيم الذي هو الاحتلام، و"الأشد" في هذه الآية يحتمل المعنيين، والرد إلى أرذل العمر هو حصول الإنسان في زمانه واختلال قوة حتى لا يقدر على إقامة الطاعات واختلال عقل حتى لا يقدر على إقامة ما يلزمه من المعتقدات، وهذا أبداً يلحق مع الكبر وقد يكون { أرذل العمر } في قليل من السن بحسب شخص ما لحقته زمانة وقد ذكر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه { أرذل العمر } خمسة وسبعون وهذا فيه نظر وإن صح عن علي رضي الله عنه فلا يتوجه إلا أن يريد على الأكثر فقد نرى كثيراً أبناء ثمانين سنة ليسوا في أرذل العمر، وقرأ الجمهور "العمر" مشبعة وقرأ نافع "العمر" مخففة الميم واختلف عنه، وقوله تعالى: { لكيلا يعلم } أي لينسى معارفه وعلمه الذي كان معه فلا يعلم من ذلك شيئاً فهذا مثال واحد يقضي للمعتبر به أن القادر على هذه المناقل المتقن لها قادر على إعادة تلك الأجساد التي أوجدها بهذه المناقل إلى حالها الأولى.
{ وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَآءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِـي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ ومِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ ذلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ }
هذا هو المثال الثاني الذي يعطي للمعتبر فيه جواز بعد الإجساد وذلك أن إحياء الأرض بعد موتها بين فكذلك الأجساد، و { هامدة } معناه ساكنة دارسة بالية ومنه قيل همد الثوب إذا بلي، قال الأعشى: [الكامل]

قالت قتيلة ما لجسمك شاحباً وأرى ثيابك باليات همدا

واهتزاز الأرض هو حركتها بالنبات وغير ذلك مما يعتريها بالماء، { وربت } معناه نشزت وارتفعت ومنه الربوة وهو المكان المرتفع، وقرأ جعفر بن القعقاع "وربأت" بالهمز، ورويت عن أبي عمرو وقرأها عبد الله بن جعفر وخالد بن إلياس وهي غير وجيهة ووجهها أن تكون من ربأت القوم إذا علوت شرفاً من الأرض طليعة فكأن الأرض بالماء تتطاول وتعلو، و"الزوج" النوع، و"البهيج" فعيل من البهجة وهي الحسن قاله وقتادة وغيره. قوله تعالى: { ذلك } إشارة إلى كون ما تقدم ذكر فـ { ذلك } ابتداء، وخبره { بأن } أي هو { بأن الله } تعالى { حق } محيي قادر وقوله { وأن الساعة آتية } ليس بسبب لما ذكر لكن المعنى أن الأمر مرتبط بعضه ببعض أو على تقدير: والأمر أن الساعة، وقوله تعالى: { ومن الناس } الآية، الإشارة بقوله { ومن الناس } إلى القوم المتقدم ذكرهم، وحكى النقاش عن محمد بن كعب أنه قال نزلت الآية في الأخنس بن شريق وكرر هذه على جهة التوبيخ فكأنه يقول فهذه الأمثال في غاية الوضوح والبيان { ومن الناس } مع ذلك { من يجادل } فكأن الواو واو الحال والآية المتقدمة الواو فيها واو عطف جملة الكلام على ما قبلها، والآية على معنى الإخبار وهي ها هنا مكررة للتوبيخ، و { ثاني } حال من ضمير في { يجادل } ولا يجوز أن تكون من { من } لأنها ابتداء والابتداء إنما عمله الرفع لا النصب وإضافة { ثاني } غير معتد بها لأنها في معنى الانفصال إذ تقديرها ثانياً عطفه، وقوله { ثاني عطفه } عبارة عن المتكبر المعرض قاله ابن عباس وغيره، ع: وذلك أن صاحب الكبر يرد وجهه عما يتكبر عنه فهو يرد وجهه يصعر خده ويولي صفحته ويلوي عنقه ويثني عطفه وهذه هي عبارات المفسرين، والعطف الجانب وقرأ الحسن "عَطفه" بفتح العين والعطف السيف لأن صاحبه يتعطفه أي يصله بجنبه، وقرأ الجمهور "لُيضل" بضم الياء، وقرأ مجاهد وأهل مكة بفتح الياء، وكذلك قرأ أبو عمرو، و"الخزي" الذي توعد به النضر بن الحارث في أسره يوم بدر وقتله بالصفراء، و"الحريق" طبقة من طبقات جهنم، وقوله تعالى: { ذلك بما قدمت يداك } بمعنى قال له ونسب التقديم إلى اليدين إذ هما آلتا الاكتساب واختلف في الوقف على قوله { يداك } فقيل لا يجوز لأن التقدير: وبأن الله أي { وأن الله } هو العدل فيك بجرائمك وقيل يجوز بمعنى والأمر أن الله تعالى { ليس بظلام } و"العبيد" هنا ذكروا في معنى مكسنتهم وقلة قدرتهم فلذلك جاءت هذه الصيغة.