التقدير واذكر { إذ نادى ربك موسى } وسوق هذه القصة تمثيل لكفار قريش لتكذيبهم محمداً صلى
الله عليه وسلم، وقوله { أن ائت } يجوز في { أن } أن تكون مفسرة لا موضع لها من الإعراب بمنزلة أي، ويجوز
أن تكون غيرها وهي في موضع نصب بتقدير بأن ائت، وقوله { ألا يتقون } معناه قل لهم فجمع في هذه العبارة
من المعاني نفي التقوى عنهم وأمرهم بالتقوى، وقرأ الجمهور" يتقون" بالياء من تحت، وقرأ عبد الله بن مسلم
وحماد بن سلمة وأبو قلابة "تتقون" بالتاء من فوق على معنى قل لهم، ولعظيم نخوة فرعون وتألهه وطول
مدته وما أشربت القلوب من مهابته قال عليه السلام { إني أخاف أن يكذبون }. وقرأ جمهور الناس
"ويضيقُ" بالرفع و"ينطلقُ" كذلك، وقرأ الأعرج وطلحة وعيسى ذلك بالنصب فيهما، فقراءة الرفع هي
إخبار من موسى بوقوع ضيق صدره وعدم انطلاق لسانه، وبهذا رجح أبو علي هذه القراءة، وقراءة النصب
تقتضي أن ذلك داخل تحت خوفه وهو عطف على { يكذبون }، وكان في خلق موسى عليه السلام حد
وكان في لسانه حبسة بسبب الجمرة في طفولته، وحكى أبو عمرو عن الأعرج أنه قرأ بنصب "ويضيقَ"
وبرفع "ينطلقُ" وقد يكون عدم انطلاق اللسان بالقول لغموض المعاني التي تطلب لها ألفاظ محررة، فإذا
كان هذا في وقت ضيق صدر ولم ينطلق اللسان، وقد قال موسى عليه السلام { { واحلل عقدة من لساني } }
[طه: 27] فالراجح قراءة الرفع، وقوله تعالى: { فأرسل إلى هارون } معناه يعينني ويؤازرني، وكان هارون
عليه السلام فصيحاً واسع الصدر، فحذف بعض المراد من القول إذ باقيه دال عليه، ثم ذكر موسى خوفه
القبط من أجل ذنبه، وهو قتله الرجل الذي وكزه، قاله قتادة ومجاهد والناس، فخشي أن يستقاد منه لذلك
فقال الله عز وجل له { كلا } رداً لقوله { إني أخاف } أي لا تخف ذلك فإني لم أحملك ما حملتك إلا وقد
قضيت بنصرك وظهورك وأمر موسى وهارون بخطاب لموسى فقط، لأن هارون ليس بمكلم بإجماع، ولكن
قال لموسى "اذهبا" أي أنت وأخوك، والآيات تعم جميع ما بعثهما الله به وأعظم ذلك العصا بها وقع
العجز، وبالآيتين تحدى موسى عليه السلام، ولا خلاف في أن موسى عليه السلام هو الذي حمله الله أمر
النبوة وكلها، وأن هارون كان نبياً رسولاً معيناً له وزيراً، وقوله { إنا معكم } إما على أن يجعل الاثنين
جماعة، وإما أن يريدهما، والمبعوث إليهم وبني إسرائيل، وقوله { مستمعون } على نحو التعظيم
والجبروت التي لله تعالى، وصيغة قوله { مستمعون } تعطي اهتبالاً بالأمر ليس في صيغة قوله "سامعون"،
وإلا فليس يصف الله تعالى بطلب الاستماع، وإنما القصد إظهار التهمم ليعظم أنس موسى أو تكون
الملائكة بأمر الله إياها تستمع، وقوله تعالى: { إنا رسول رب العالمين } هو على أن العرب أجرت الرسول
مجرى المصدر في أن وصفت به الجمع والواحد والمؤنث، ومن ذلك قول الهذلي:
ألكني إليها وخير الرسو ل أعلمهم بنواحي الخبر
ومنه قول الشاعر: وإن كان مولداً.
إن التي أبصرتها سحراً تكلمني رسول
وقوله { أن أرسل معنا بني إسرائيل } معناه سرح، فهو من الإرسال الذي هو بمعنى الإطلاق، وكما
تقول أرسلت الحجر من يدي، وكان موسى مبعوثاً إلى فرعون في أمرين: أحدهما أن يرسل بني إسرائيل
ويزيل عنهم ذل العبودية والغلبة، والثاني أن يؤمن ويهتدي وأمر بمكافحته ومقاومته في الأول، ولم يؤمر
بذلك في الثاني على ما بلغ من أمره، وبعث بالعبادات والشرع إلى بني إسرائيل فقط، هذا قول بعض
العلماء، وقول فرعون لموسى { ألم نُربّك } هو على جهة المن عليه والاحتقار، أي ربيناك صغيراً ولم
نقتلك في جملة من قتلنا، { ولبثت فينا سنين }، فمتى كان هذا الذي تدعيه، وقرأ جمهور القراء "من
عمُرك" بضم الميم، وقرأ أبو عمرو "عمْرك" بسكونها، ثم قرره على قتل القبطي بقوله { وفعلت فعلتك }
والفَعلة بفتح الفاء المرة من الفعل، وقرأ الشعبي "فِعلتك" بكسر الفاء وهي هيئة الفعل، وقوله { وأنت من
الكافرين }، يحتمل ثلاثة أوجه: أحدها أن يريد وقتلت القبطي { وأنت } في قتلك إياه { من الكافرين } إذ
هو نفس لا يحل قتله قاله الضحاك، أو يريد { وأنت من الكافرين } بنعمتي في قتلك إياه قاله ابن زيد،
وهذان بمعنى واحد في حق لفظ الكفر، وإنما اختلفا باشتراك لفظ الكفر والثاني أن يكون بمعنى الهزء على
هذا الدين فأنت من الكافرين بزعمك قاله السدي، والثالث هو قول الحسن أن يريد { وأنت من الكافرين }
الآن يعني فرعون بالعقيدة التي كان يبثها فيكون الكلام مقطوعاً من قوله { وفعلت فعلتك } وإنما هو إخبار
مبتدأ كان من الكافرين وهذا الثاني أيضاً يحتمل أن يريد به كفر النعمة.
قال القاضي أبو محمد: وكان بين خروج موسى عليه السلام حين قتل القبطي وبين رجوعه نبياً إلى
فرعون إحدى عشر سنة غير أشهر.