المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز
ذهب بعض الناس إلى أن يصل معاني هذه الآيات بعضها ببعض، من حيث أخبر تعالى: أنه لا يقبل
من الموافي على الكفر { { ملء الأرض ذهباً } [آل عمران: 91] وقد بان أنه يقبل من المؤمن القليل والكثير، فحض
على الإنفاق من المحبوب المرغوب فيه، ثم ذكر تقرب إسرائيل عليه السلام، بتحريم ما كان يحب على نفسه،
ليدل تعالى على أن جميع التقربات تدخل بالمعنى في جملة الإنفاق من المحبوب، وفسر جمهور
المفسرين هذه الآيات، على أنها معان منحازة، نظمتها الفصاحة المعجزة أجمل نظم، وقوله تعالى { لن
تناولوا } الآية، خطاب لجميع المؤمنين، وقال السدي وعمر بن ميمون: { البر } الجنة.
قال الفقيه الإمام: وهذا تفسير بالمعنى، وإنما الخاص باللفظة أنه ما يفعله البر من أفاعيل الخير،
فتحتمل الآية أن يريد: لن تنالوا بر الله تعالى بكم، أي رحمته ولطفه، ويحتمل أن يريد: لن تنالوا درجة
الكمال من فعل البر حتى تكونوا أبراراً، إلا بالإنفاق المنضاف إلى سائر أعمالكم، وبسبب نزول هذه
الآية، تصدق أبو طلحة بحائطه، المسمى بيرحاء، وتصدق زيد بن حارثة بفرس كان يحبها، فأعطاها رسول
الله صلى الله عليه وسلم أسامة ابنه، فكأن زيداً شق عليه فقال له النبي: أما إن الله قد قبل صدقتك، وكتب
عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري أن يشتري له جارية من سبي جلولاء وقت فتح مدائن كسرى
علي يدي سعيد بن أبي وقاص فسيقت إليه وأحبها فدعا بها يوماً وقال: إن الله يقول { لن تنالوا البر حتى
تنفقوا مما تحبون }، فأعتقها.
قال الفقيه الإمام أبو محمد: فهذا كله حمل للآية على أن قوله تعالى: { مما تحبون } أي من رغائب الأموال التي يضن بها، ويتفسر بقول النبي صلى الله عليه وسلم: خير الصدقة أن تصدق وأنت صحيح شحيح
تخشى الفقر وتأمل الغنى - الحديث - وذهب قوم من العلماء إلى أن ما يحب من المطعومات على جهة
الاشتهاء يدخل في الآية، فكان عبد الله بن عمر، يشتهي أكل السكر بالوز فكان يشتري ذلك ويتصدق به
ويتلو الآية.
قال الفقيه الإمام أبو محمد: وإذا تأملت جميع الطاعات، وجدتها إنفاقاً مما يحب الإنسان، إما من
ماله، وإما من صحته، وإما من دعته وترفهه، وهذه كلها محبوبات، وسأل رجل أبا ذر الغفاري رضي الله
عنه، أي الأعمال أفضل؟ فقال: الصلاة عماد الإسلام، والجهاد سنام العمل، والصدقة شيء عجيب، فقال
له الرجل: أراك تركت شيئاً وهو أوثقها في نفسي الصيام، فقال أبو ذر: قربة وليس هناك، ثم تلا { لن تنالوا
البر } الآية، وقوله تعالى { وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم } شرط وجواب فيه وعد، أي عليم مجاز به
وإن قل.
قوله تعالى: { كل الطعام } الآية، إخبار بمغيب عن محمد صلى الله عليه وسلم وجميع الأميين لا
يعلمه إلا الله وعلماء أهل الكتاب، وذهب كثير من المفسرين إلى أن معنى الآية: الرد على اليهود في
قولهم في كل ما حرموه على أنفسهم من الأشياء: إنها محرمة عليهم بأمر الله في التوراة، فأكذبهم الله بهذه
الآية، وأخبر أن جميع الطعام كان حلاً لهم، إلا ما حرم إسرائيل على نفسه خاصة، ولم يرد به ولده، فلما
استنوا هم به جاءت التوراة بتحريم ذلك عليهم، وليس من التوراة شيء من الزوائد التي يدعون أن الله
حرمها، وإلى هذا تنحو ألفاظ السدي، وقال: إن الله تعالى حرم ذلك عليهم في التوراة عقوبة لاستنانهم
في تحريم شيء إنما فعله يعقوب خاصة لنفسه، قال: فذلك قوله تعالى: { { فبظلم من الذين هادوا حرمنا
عليهم طيبات أحلت لهم } [النساء: 160].
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: والظاهر في لفظة ظلم أنها مختصة بتحريم ونحوه،
يدل على ذلك أن العقوبة وقعت بذلك النوع، وذهب قوم من العلماء إلى أن معنى الآية: الرد على قوم من
اليهود قالوا: إن ما نحرمه الآن على أنفسنا من الأشياء التي لم تذكر في التوراة كان علينا حراماً في ملة أبينا
إبراهيم، فأكذبهم الله وأخبر أن الطعام كله كان حلالاً لهم قبل التوراة { إلا ما حرم إسرائيل } في خاصته، ثم
جاءت التوراة بتحريم ما نصت عليه، وبقيت هذه الزوائد في حيز افترائهم وكذبهم، وإلى هذا تنحو
ألفاظ ابن عباس رضي الله عنهما وترجم الطبري في تفسير هذه الآية بتراجم، وأدخل تحتها أقوالاً توافق
تراجمه، وحمل ألفاظ الضحاك أن الاستثناء منقطع وكأن المعنى: كل الطعام كان حلاً لهم قبل نزول
التوراة وبعد نزولها.
قال الفقيه الإمام أبو محمد: فيرجع المعنى إلى القول الأول الذي حكيناه، وحمل الطبري قول
الضحاك إن معناه: لكن إسرائيل حرم على نفسه خاصة ولم يحرم الله على بني إسرائيل في توراة ولا
غيرها.
قال الفقيه الإمام: وهذا تحميل يرد عليه قوله تعالى: { { حرمنا عليهم } [الأنعام: 146] وقوله صلى
الله عليه وسلم: حرمت عليهم الشحوم إلى غير ذلك من الشواهد، وقوله تعالى: { حِلاًّ } معناه: حلالاً،
و { إسرائيل } هو يعقوب، وانتزع من هذه الآية أن للأنبياء أن يحرموا باجتهادهم على أنفسهم ما اقتضاه النظر لمصلحة أو قربة أو زهد، ومن هذا على جهة المصلحة تحريم النبي صلى الله عليه وسلم جاريته،
فعاتبه الله تعالى في ذلك ولم يعاتب يعقوب، فقيل: إن ذلك لحق آدمي ترتب في نازلة نبينا محمد صلى
الله عليه وسلم وقيل: إن هذه تحريم تقرب وزهد، وتحريم الجارية تحريم غضب ومصلحة نفوس،
واخلتف الناس في الشيء الذي حرمه يعقوب على نفسه فقال يوسف بن ماهك: جاء أعرابي إلى ابن
عباس فقال له: إنه جعل امرأته عليه حراماً، فقاله ابن عباس: إنها ليست عليك بحرام، فقال الأعرابي: ولم؟
والله تعالى يقول في كتابه { إلا ما حرم إسرائيل على نفسه } فضحك ابن عباس وقال: وما يدريك ما حرم
إسرائيل؟ ثم أقبل على القوم يحدثهم، فقال: إن إسرائيل عرضت له الأنساء فأضنته فجعل لله ان شفاه من
ذلك أن لا يطعم عرقاً، قال: فلذلك اليهود تنزع العروق من اللحم، وقال بمثل هذا القول قتادة وأبو مجلز
وغيرهم، وقال ابن عباس والحسن بن أبي الحسن وعبد الله بن كثير ومجاهد أيضاً: إن الذي حرم إسرائيل
هو لحوم الإبل وألبانها، ولم يختلف فيما علمت أن سبب التحريم هو بمرض أصابه، فجعل تحريم ذلك
شكراً لله تعالى إن شفي، وقيل: هو وجع عرق النسا، وفي حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أن
عصابة من بني إسرائيل قالوا له: يا محمد ما الذي حرم إسرائيل على نفسه؟ فقال لهم: أنشدكم بالله هل
تعلمون أن يعقوب مرض مرضاً شديداً فطال سقمه منه فنذر لله نذراً إن عافاه الله من سقمه ليحرمنَّ أحب
الطعام والشراب إليه، وكان أحب الطعام إليه لحوم الإبل وألبانها؟ قالوا: اللهم نعم، وظاهر الأحاديث
والتفاسير في هذه الأمر أن يعقوب عليه السلام حرم الإبل وألبانها، وهو يحبها، تقرباً إلى الله بذلك، إذ
ترك الترفه والتنعم من القرب، وهذا هو الزهد في الدنيا، وإليه نحا عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقوله:
إياكم وهذه المجازر فإن لها ضراوة كضراوة الخمر ومن ذلك قول أبي حازم الزاهد، وقد مر بسوق الفاكهة
فرأى محاسنها فقال: موعدك الجنة إن شاء الله، وحرم يعقوب عليه السلام أيضاً العروق، لكن بغضه لها
لما كان امتحن بها، وهذا شيء يعتري نفوس البشر في غير ما شيء وليس في تحريم العروق قربة فيما
يظهر، والله أعلم، وقد روي عن ابن عباس: أن يعقوب حرم العروق ولحوم الإبل، وأمر الله نبيه محمداً
صلى الله عليه وسلم أن يأمرهم بالإتيان بالتوراة، حتى يبين منها كيف الأمر، المعنى: فإنه أيها اليهود، كما
أنزل الله عليَّ لا كما تدعون أنتم، قال الزجّاج: وفي هذا تعجيز لهم وإقامة الحجة عليهم، وهي كقصة
المباهلة مع نصارى نجران.