التفاسير

< >
عرض

ذٰلِكَ عَالِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ
٦
ٱلَّذِيۤ أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ ٱلإِنْسَانِ مِن طِينٍ
٧
ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ
٨
ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمْعَ وَٱلأَبْصَارَ وَٱلأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ
٩
وَقَالُوۤاْ أَءِذَا ضَلَلْنَا فِي ٱلأَرْضِ أَءِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلَقَآءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ
١٠
قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ ٱلْمَوْتِ ٱلَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ
١١
-السجدة

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

قالت فرقة أراد بــ { الغيب } الآخرة، وبـ { الشهادة } الدنيا، وقيل أراد بـ { الغيب } ما غاب عن المخلوقين وبـ { الشهادة } ما شوهد من الأشياء فكأنه حصر بهذه الألفاظ جميع الأشياء، وقرأ جمهور الناس "خلَقه" بفتح اللام على أنه فعل ماض، ومعنى { أحسن } أتقن وأحكم فهو حسن من جهة ما هو لمقاصده التي أريد لها، ومن هذا المعنى ما قال ابن عباس وعكرمة: ليست است القرد بحسنة ولكنها متقنة محكمة، والجملة في { خلقه } يحتمل أن تكون في موضع نصب صفة لـ { كل } أو في موضع خفض صفة لـ { شيء }، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر "خلْقه" بسكون اللام وذلك منصوب على المصدر، والضمير فيه إما عائد على الله تعالى وإما على المفعول، ويصح أن يكون بدلاً من { كل } وذهب بعض الناس على هذه القراءة إلى أن { أحسن } بمعنى ألهم، وأن هذه الآية بمعنى قوله تعالى: { { أعطى كل شيء خلقه ثم هدى } [طه: 50] أي ألهم الرجل إلى المرأة، والجمل إلى الناقة، وهذا قول فيه بعد ورجحه الطبري، وقرأ جمهور الناس "وبدأ"، وقرأ الزهري "وبدا خلق الإنسان" بألف دون همزة وبنصب القاف وذلك على البدل لا على التخفيف.
قال الفقيه الإمام القاضي: كأنه أبدل الياء من بدى ألفاً، وبدى لغة الأنصار، وقال ابن رواحة: [الرجز]

"بسم الإله وبه بدينا ولو عبدنا غيره شقينا"

و { الإنسان } آدم عدد أمره على بنيه إذ خلقه خلق لهم من حيث هو منسلهم، و"النسل" ما يكون عن الحيوان من الولد كأنه مأخوذ من نسل الشيء إذا خرج من موضعه، ومنه قوله تعالى: { { وهم من كل حدب ينسلون } [الأنبياء: 96] ومنه نسل ريش الطائر إذا تساقط، و"السلالة" من سل يسل فكأن الماء يسل من الإنسان ومن ذلك قول الشاعر: [الطويل]

فجاءت به عضب الأديم غضنفراً سلالة فرج كان غير حصين

و"المهين" الضعيف، مهن الإنسان إذا ضعف وذل، وقوله { ونفخ } عبارة عن إفاضة الروح في جسد آدم، والضمير في { روحه } لله تعالى، وهي إضافة ملك إلى ملك وخلق إلى خالق، ثم أظهر تعديد النعم عليهم في أن خصهم في قوله { لكم } بضمير { السمع والأبصار والأفئدة } وهي لمن تقدم ذكره أيضاً كما خص آدم بالتسوية ونفخ الروح وهو لجميع ذريته، وهذا كله إيجاز واقتضاب وترك لما يدل عليه المنطوق به.
ويحتمل أن يكون { الإنسان } في هذه الآية اسم الجنس، وقوله تعالى: { قليلاً } صفة لمصدر محذوف، وهو في موضع الحال حين حذف الموصوف به، والضمير في { قالوا } للكفار الجاحدين البعث من القبور والمستبعدين لذلك دون حجة ولا دليل. وموضع { إذا } نصب بما في قوله { إنا لفي خلق جديد } لأن معناه لنعاد، واختلفت القراءة في { أئذا } وقد تقدم استيعاب ذكره في غير هذا الموضع. وقرأ جمهور القراء "ضللنا" بفتح اللام، وقرأ ابن عامر وأبو رجاء وطلحة وابن وثاب "ضلِلنا" بكسر اللام والمعنى تلفنا وتقطعت أوصالنا فذهبنا حتى لم نوجد، ومنه قول الأخطل: [الكامل]

كنت القذا في متن أكدر مزبد قذف الأتيّ به فضلّ ضلالا

ومنه قول النابغة:

فآب مضلوه بعين جلية وغودر بالجولان حزم ونائل

أي متلفوه دفناً، ومنه قول امرىء القيس: "تضل المداري في مثنى ومرسل". وقرأ الحسن البصري "صلَلنا" بالصاد غير منقوطة وفتح اللام، قال الفراء وتروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومعناه صرنا من الصلة وهي الأرض اليابسة الصلبة، ويجوز أن يريد به من التغير كما يقال صل اللحم، ورويت هذه القراءة عن ابن عباس وأبان بن سعيد بن العاصي، وقرأ الحسن أيضاً "صلِلنا" بالصاد غير منقوط وكسر اللام، وقرأ علي بن أبي طالب وأبو حيوة "ضُلِّلنا" بضم الضاد وكسر اللام وشدها، وقولهم { إنا لفي خلق جديد } أي إنا لفي هذه الحالة نعاد ويجدد خلقنا. وقوله تعالى: { بل } إضراب عن معنى استفهامهم كأنه قال ليسوا مستفهمين "بل هم كافرون" جاحدون بلقاء الله تعالى، ثم أمر تعالى نبيه أن يخبرهم بجملة الحال غير مفصلة، فبدأ بالإخبار من وقت يفقد روح الإنسان إلى الوقت الذي يعود فيه إلى ربه فجمع الغايتين الأولى والآخرة، و { يتوفاكم } معناه يستوفيكم.
ومنه قال الشاعر: [الرجز]

أزيني الأردم ليسوا من أحد ولا توفيهم قريش في العدد

و { ملك الموت } اسمه عزرائيل وتصرفه كله بأمر الله وبخلقه واختراعه وروي في الحديث أن البهائم كلها يتوفى الله روحها دون ملك.
قال الفقيه الإمام القاضي: كأن يعدم حياتها، وكذلك الأمر في بني آدم إلا أنه نوع شرف بتصرف ملك وملائكة معه في قبض أرواحهم، وكذلك أيضاً غلظ العذاب على الكافرين بذلك، وروي عن مجاهد: أن الدنيا بين يدي ملك الموت كالطست بين يدي الإنسان يأخذ من حيث أمر.