قوله تعالى: { والذي جاء بالصدق } معادل لقوله: { { فمن أظلم ممن كذب } [الزمر: 32] { فمن }
[الزمر: 32] هنالك للجميع والعموم، فكذلك هاهنا هي للجنس أيضاً، كأنه قال: والفريق الذي جاء
بعضه بالصدق وصدق بعضه، ويستقيم المعنى واللفظ على هذا الترتيب. وفي قراءة ابن مسعود: والذي
جاؤوا بالصدق وصدقوا به. و"الصدق" هنا: القرآن وأنباؤه والشرع بجملته. وقالت فرقة: { الذي } يراد
به الذين، وحذفت النون لطول الكلام، وهذا غير جيد، وتركيب جاء عليه يرد ذلك، وليس هذا كقول
الفرزدق:
إن عميَّ اللذا قتلا الملوك
ونظير الآية قول الشاعر [أشهب بن رميلة]: [الطويل]
وإن الذي حانت بفلج دماؤهم هُم القوم كل القوم يا أم خالد
وقال ابن عباس: { والذي جاء بالصدق } هو محمد صلى الله عليه وسلم وهو الذي صدق به،
وقالت فرقة من المفسرين: "الذي جاء" هو جبريل، والذي صدق به هو محمد صلى الله عليه وسلم. وقال
علي بن أبي طالب وأبو العالية والكلبي وجماعة "الذي جاء" هو محمد عليه السلام، والذي صدق هو أبو
بكر. وقال أبو الأسود وجماعة منهم مجاهد: الذي صدق هو علي بن أبي طالب وقال قتادة وابن زيد:
"الذي جاء" هو محمد صلى الله عليه وسلم، والذي صدق به هم المؤمنون. قال مجاهد هم أهل القرآن. وقالت
فرقة: بالعموم الذي ذكرناه أولاً، وهو أصوب الأقوال.
وقرأ أبو صالح ومحمد بن جحادة وعكرمة بن سليمان: "وصدَق به" بتخفيف الدال، بمعنى استحق
به اسم الصدق، فعلى هذه القراءة يكون إسناد الأفعال كلها إلى محمد عليه السلام، وكأن أمته في
ضمن القول، وهو الذي يحسن { أولئك هم المتقون } قال ابن عباس: اتقوا الشرك.
واللام في قوله: { ليكفر } يحتمل أن تتعلق بقوله: { المحسنين }، أي الذين أحسنوا لكي يكفر،
وقاله ابن زيد. ويحتمل أن تتعلق بفعل مضمر مقطوع مما قبله، كأنك قلت: يسرهم الله لذلك ليكفر، لأن
التكفير لا يكون إلا بعد التيسير للخير، واستدلوا على أن { عملوا } هو كفر أهل الجاهلية ومعاصي أهل
الإسلام.
وقوله تعالى: { أليس الله بكاف عبده } تقوية لنفس النبي عليه السلام، لأن كفار قريش كانت خوفته
من الأصنام، وقالوا يا محمد أنت تسبها ونخاف أن تصيبك بجنون أو علة، فنزلت الآية في ذلك.
وقرأ حمزة والكسائي: "عباده" يريد الأنبياء المختصين به، وأنت أحدهم، فيدخل في ذلك
المطيعون من المؤمنين والمتوكلون على الله، وهذه قراءة أبي جعفر ومجاهد وابن وثاب وطلحة والأعمش.
وقرأ الباقون: "عبده" وهو اسم جنس، وهي قراءة الحسن وشيبة وأهل المدينة ويقوي أن الإشارة إلى محمد
عليه السلام قوله: { ويخوفونك }.
وقوله: { من دونه } يريد بالذين يعبدون من دونه، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث
خالد بن الوليد إلى كسر العزى، فقال سادنها: يا خالد، إني أخاف عليك منها، فلها قوة لا يقوم لها شيء،
فأخذ خالد الفأس فهشم به وجهها وانصرف. ثم قرر تعالى الهداية والإضلال من عنده بالخلق والاختراع،
وأن ما أراد من ذلك لا راد له. ثم توعدهم بعزته وانتقامه، فكان ذلك، وانتقم منهم يوم بدر وما بعده.