التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءَامَنُواْ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوۤاْ إِلَى ٱلطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوۤاْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ ٱلشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً
٦٠
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَإِلَى ٱلرَّسُولِ رَأَيْتَ ٱلْمُنَٰفِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً
٦١
-النساء

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

تقول العرب: زعم فلان كذا، في الأمر الذي يضعف فيه التحقيق وتتقوى فيه شبه الإبطال، فغاية درجة الزعم إذا قوي أن يكون مظنوناً، يقال: "زَعم" بفتح الزاي وهو المصدر، "وزُعم" بضمها وهو الاسم وكذلك زعم المنافقين أنهم مؤمنون، هو مما قويت فيه شبهة الإبطال لسوء أفعالهم، حتى صححها الخبر من الله تعالى عنهم، ومن هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: " بئس مطية الرجل زعموا" وقد قال الأعشى: [المتقارب]

ونُبّئْتُ قَيْساً وَلَمْ أبْلُهُ كَمَا زَعَمُوا خَيْرَ أهْلِ الْيَمَنْ

فقال الممدوح: وما هو إلا الزعم وحرمه، وإذا قال سيبويه: زعم الخليل، فإنما يستعملها فيما انفرد الخليل به، وكان أقوى رتب "زعم" أن تبقى معها عهدة الخبر على المخبر، و "أن" معمولة لـ { يزعمون } وقال عامر الشعبي وغيره: نزلت الآية في منافق اسمه بشر، خاصم رجلاً من اليهود، فدعاه اليهودي إلى المسلمين لعلمه أنهم لا يرتشون، وكان هو يدعو اليهودي إلى اليهود لعلمه أنهم يرتشون، فاتفقا بعد ذلك على أن أتيا كاهناً كان بالمدينة فرضياه، فنزلت هذه الآية فيهما وفي صنفيهما، "فالذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل" على محمد هم المنافقون، "والذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل" من قبله هم اليهود، وكل قد أمر في كتابه بالكفر بالطاغوت، و { الطاغوت } هنا الكاهن المذكور، فهذا تأنيب للصنفين، وقال ابن عباس: { الطاغوت } هنا هو كعب بن الأشرف, وهو الذي تراضيا به, فعلى هذا إنما يؤنب صنف المنافقين وحده، وهم الذين آمنوا بما أنزل على محمد وبما أنزل من قبله بزعمهم، لأن اليهود لم يؤمروا في شرعهم بالكفر بالأحبار، وكعب منهم، وذكر النقاش: أن كعباً هذا أصله من طيىء وتهود، وقال مجاهد: نزلت في مؤمن ويهودي، وقالت فرقة: نزلت في يهوديين.
قال القاضي أبو محمدرحمه الله : وهذان القولان بعيدان من الاستقامة على ألفاظ الآية، وقال السدي: نزلت في المنافقين من قريظة والنضير، وذلك أنهم تفاخروا بسبب تكافؤ دمائهم، إذ كانت النضير في الجاهلية تدي من قتلت، وتستقيد إذا قتلت قريظة منهم، فأبت قريظة لما جاء الإسلام، وطلبوا المنافرة، فدعا المؤمنون منهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ودعا المنافقون إلى أبي بردة الكاهن، فنزلت الآية فيهم، وحكى الزجّاج: أن المنافق المتقدم الذكر أو غيره اختصم عند النبي صلى الله عليه وسلم فقضى في أمره، فخرج وقال لخصمه: لا أرضى بحكمه، فذهبا إلى أبي بكر فقضى بينهما، فقال المنافق: لا أرضى، فذهبا إلى عمر فوصفا له جميع ما فعلا، فقال لهما: اصبرا حتى أقضي حاجة في منزلي ثم أخرج فأحكم بينكما، فدخل وأخذ سيفه وخرج، فضرب المنافق حتى برد، وقال: هذا حكمي فيمن لم يرض بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت الآية، وقال الحسن: احتكم المنافقون بالقداح التي يضرب بها عند الأوثان فنزلت الآية.
و { يضلهم } معناه: يتلفهم، وجاء { ضلالاً } على غير المصدر تقديره: "فيضلون ضلالاً"، و { بعيداً } عبارة عن عظم الضلال وتمكنه حتى يبعد الرجوع عنه والاهتداء معه.
وقرأ الجمهور "تَعالَوا" بفتح اللام، وقرأ الحسن فيما روى عنه قتادة "تعالُوا" بضمة، قال أبو الفتح: وجهها أن لام الفعل من "تعاليت" حذفت تخفيفاً، وضمت اللام التي هي عين الفعل، وذلك لوقوع واو الجمع بعدها، كقولك: تقدموا وتأخروا، وهي لفظة مأخوذة من العلو، لما استعملت في دعاء الإنسان وجلبه وأشخاصه، سيقت من العلو تحسيناً للأدب، كما تقول: ارتفع إلى الحق، ونحوه، و { رأيت } هي رؤية عين لمن صد من المنافقين مجاهرة وتصريحاً، وهي رؤية قلب لمن صد منهم مكراً وتخابثاً ومسارقة حتى لا يعلم ذلك منه إلا بالتأويل عليه والقرائن الصادرة عنه، فإذا كانت رؤية عين فـ { يصدون } في موضع نصب على الحال، وإذا كانت رؤية قلب فـ { يصدون } نصب على المفعول الثاني، و { صدوداً } مصدر عند بعض النحاة من صد، وليس عند الخليل بمصدر منه، والمصدر عنده "صداً" وإنما ذلك لأن فعولاً إنما هو مصدر للأفعال غير المتعدية، كجلس جلوساً، وقعد قعوداً و"صد" فعل متعد بنفسه مرة كما قال:
{ { فصدهم عن السبيل } [النمل: 24- العنكبوت:38]، ومرة بحرف الجر كقوله تعالى: { يصدون عنك صدوداً } وغيره، فمصدره: صد، و { صدوداً } اسم.