التفاسير

< >
عرض

وَهُوَ ٱلَّذِي يُنَزِّلُ ٱلْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ ٱلْوَلِيُّ ٱلْحَمِيدُ
٢٨
وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَآبَّةٍ وَهُوَ عَلَىٰ جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٌ
٢٩
وَمَآ أَصَـٰبَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ
٣٠
وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي ٱلأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ
٣١
وَمِنْ آيَاتِهِ ٱلْجَوَارِ فِي ٱلْبَحْرِ كَٱلأَعْلاَمِ
٣٢
إِن يَشَأْ يُسْكِنِ ٱلرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَىٰ ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ
٣٣
-الشورى

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

هذه تعديد نعمة الله تعالى الدالة على وحدانيته، وأنه الإله الذي يستحق أن يعبد دون سواه من الأنداد.
وقرأ "يُنَزِّل" مثقلة جمهور القراء، وقرأها "يُنْزِل" مخففة ابن وثاب والأعمش، ورويت عن أبي عمرو، ورجحها أبو حاتم، وقرأ جمهور الناس: "قنَطوا" بفتح النون، وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش: بكسر النون، وقد تقدم ذكرها وهما لغتان: قنَط، وقنِط، وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قيل له: أجدبت الأرض وقنط الناس، فقال: مطروا إذاً، بمعنى أن الفرج عند الشدة، واختلف المتأولون في قوله تعالى: { وينشر رحمته } فقالت فرقة: أراد بالرحمة المطر، وعدد النعمة بعينها بلفظتين: الثاني منهما يؤكد الأول. وقالت فرقة: الرحمة في هذا الموضع الشمس، فذلك تعديد نعمة غير الأولى، وذلك أن المطر إذا ألم بعد القنط حسن موقعه، فإذا دام سئم، فتجيء الشمس بعده عظيمة الموضع.
وقوله تعالى: { وهو الولي الحميد } أي من هذه أفعاله فهو الذي ينفع إذا والى وتحمد أفعاله ونعمه، لا كالذي لا يضر ولا ينفع من أوثانكم. ثم ذكر تعالى الآية الكبرى، الصنعة الدالة على الصانع، وذلك { خلق السماوات والأرض }.
وقوله تعالى: { وما بث فيهما } يتخرج على وجوه، منها أن يريد إحداهما فيذكر الاثنين كما قال:
{ { يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان } [الرحمن: 22] وذلك إنما يخرج من الملح وحده، ومنها أن يكون تعالى قد خلق السماوات وبث دواب لا نعلمها نحن، ومنها أن يريد الحيوانات التي توجد في السحاب، وقد يقع أحياناً كالضفادع ونحوها، فإن السحاب داخل في اسم السماء. وحكى الطبري عن مجاهد أنه قال في تفسير: { وما بث فيهما من دابة } هم الناس والملائكة، وبعيد غير جار على عرف اللغة أن تقع الدابة على الملائكة.
وقوله تعالى: { وهو على جمعهم } يريد القيامة عند الحشر من القبور وقوله تعالى: { وما أصابكم من مصيبة } قرأ جمهور القراء: "فبما" بفاء، وكذلك هي في جل المصاحف. وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر وشيبة: "بما" دون فاء. وحكى الزجاج أن أبا جعفر وحده من المدنيين أثبت الفاء. قال أبو علي الفارسي: "أصاب"، من قوله: "وما أصاب" يحتمل أن يكون في موضع جزم، وتكون { ما } شرطية، وعلى هذا لا يجوز حذف الفاء عند سيبويه، وجوز حذفها أبو الحسن الأخفش وبعض البغداديين على أنها مرادة في المعنى، ويحتمل أن يكون "أصاب" صلة لما، وتكون { ما } بمعنى الذي، وعلى هذا يتجه حذف الفاء وثبوتها، لكن معنى الكلام مع ثبوتها التلازم، أي لولا كسبكم ما أصابتكم مصيبة، والمصيبة إنما هي بسبب كسب الأيدي، ومعنى الكلام مع حذفها يجوز أن يكون التلازم، ويجوز أن يعرى منه، وأما في هذه الآية فالتلازم مطرد مع الثبوت والحذف.
وأما معنى الآية فاختلف الناس فيه، فقالت فرقة: هي إخبار من الله تعالى بأن الرزايا والمصائب في الدنيا إنما هي مجازاة من الله تعالى على ذنوب المرء وخطاياه، وأن الله تعالى يعفو عن كثير فلا يعاقب عليه بمصيبة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:
"لا يصيب ابن آدم خدش عود أو عثرة قدم ولا اختلاج عرق إلا بذنب وما يعفو عنه أكثر" ، وقال عمران بن حصين وقد سئل عن مرضه إن أحبه إلي أحبه إلى الله، وهذا بما كسبت يداي، وعفو ربي كثير. وقال مرة الهمداني: رأيت على ظهر كف شريح قرحة فقلت ما هذا؟ قال هذا بما كسبت يدي { ويعفو عن كثير }، وقيل لأبي سليمان الداراني: ما بال الفضلاء لا يلومون من أساء إليهم؟ فقال لأنهم يعلمون أن الله تعالى هو الذي ابتلاهم بذنوبهم. وروي عن علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله أكرم من أن يثني على عبده العقوبة إذا أصابته في الدنيا بما كسبت يداه" . وقال الحسن بن أبي الحسن، معنى الآية في الحدود: أي ما أصابكم من حد من حدود الله، وتلك مصائب تنزل بشخص الإنسان ونفسه، فإنما هي بكسب أيديكم { ويعفو عن كثير }، فستره على العبد حتى لا يحد عليه. ثم أخبر عن قصور ابن آدم وضعفه وأنه في قبضة القدرة، لا يعجز طلب ربه، ولا يمكنه الفرار منه و { الجواري } جمع جارية، وهي السفينة.
وقرأ: "الجواري" بالياء نافع وعاصم وأبو عمرو وأبو جعفر وشيبة، ومنهم من أثبتها في الوصل ووقف على الراء. وقرأ أيضاً عاصم بحذف الياء في وصل ووقف. وقال أبو حاتم: نحن نثبتها في كل حال.
و: "الأعلام" الجبال، ومنه قول الخنساء: [البسيط]

وإن صخراً لتأتم الهداة به كأنه علم في رأسه نار

ومنه المثل: إذا قطعن علماً بدا علم فجري السفن في الماء آية عظيمة، وتسخير الريح لذلك نعمة منه تعالى، وهو تعالى لو شاء أن يديم سكون الريح عنها لركدت أي أقامت وقرت ولم يتم منها غرض.
وقرأ أبو عمرو وعاصم "الريح" واحدة. وقرأ: "الرياح" نافع وابن كثير والحسن.
وقرأ الجمهور: "فيظلَلن" بفتح اللام. وقرأ قتادة: "فيظلِلن" بكسر اللام.
وباقي الآية فيه الموعظة وتشريف الصبار الشكور بالتخصيص، والصبر والشكر فيهما الخير كله، ولا يكونان إلا في عالم.