التفاسير

< >
عرض

لِلَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ ٱلذُّكُورَ
٤٩
أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ
٥٠
وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ ٱللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ
٥١
وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا ٱلْكِتَابُ وَلاَ ٱلإِيمَانُ وَلَـٰكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِيۤ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
٥٢
صِرَاطِ ٱللَّهِ ٱلَّذِي لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ أَلاَ إِلَى ٱللَّهِ تَصِيرُ ٱلأُمُورُ
٥٣
-الشورى

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

الآية الأولى آية اعتبار دال على القدرة والملك المحيط بالجميع، وأن مشيئته تبارك وتعالى نافذة في جميع خلقه وفي كل أمرهم، وهذا لا مدخل لصنم فيه، فإن الذي يخلق ما يشاء ويخترع، فإنما هو الله تبارك وتعالى، وهو الذي يقسم الخلق فيهب الإناث لمن يشاء، أي يجعل بنيه نساء، ويهب الذكور لمن يشاء على هذا الحد، أو ينوعهم مرة يهب ذكراً ويهب أنثى، وذلك معنى قوله تعالى: { أو يزوجهم }. وقال محمد بن الحنفية: يريد بقوله تعالى: { أو يزوجهم } التوأم، أي يجعل في بطنٍ زوجاً من الذرية ذكراً وأنثى. والعقيم: الذي لا يولد له، وهذا كله مدبر بالعلم والقدرة، وهذه الآية تقضي بفساد وجود الخنثى المشكل. وبدئ في هذه الآية بذكر الإناث تأنيساً بهن وتشريفاً لهن ليتهمم بصونهن والإحسان إليهن، وقال النبي عليه السلام: "من ابتلي من هذه البنات بشيء فأحسن إليهن كن له حجاباً من النار" . وقال واثلة بن الأسقع: من يمن المرأة تبكيرها بالأنثى قبل الذكر، لأن الله تعالى بدأ بالإناث، حكاه الثعلبي. وقال إسحاق بن بشر: نزلت هذه الآية في الأنبياء ثم عمت، فلوط أبو البنات لم يولد له ذكر، وإبراهيم ضده، ومحمد عليه السلام ولد له الصنفان، ويحيى بن زكرياء عقيم.
وقوله تعالى: { وما كان لبشر أن يكلمه الله } الآية نزلت بسبب خوض كان للكفار في معنى تكليم الله موسى ونحو ذلك، ذهبت قريش واليهود في ذلك إلى تجسيم ونحوه، فنزلت الآية مبينة صورة تكليم الله عباده كيف هو، فبين الله أنه لا يكون لأحد من الأنبياء ولا ينبغي له ولا يمكن فيه أن يكلمه الله إلا بأن يوحي إليه أحد وجوه الوحي من الإلهام. قال مجاهد، والنفث في القلب. وقال النقاش: أو وحي في منام؟ قال إبراهيم النخعي: كان من الأنبياء من يخط له في الأرض ونحو هذا، أو بأن يسمعه كلامه دون أن يعرف هو للمتكلم جهة ولا حيزاً كموسى عليه السلام، وهذا معنى: { من وراء حجاب } أي من خفاء عن المتكلم لا يحده ولا يتصور بذهنه عليه، وليس كالحجاب في الشاهد، أو بأن يرسل إليه ملكاً يشافهه بوحي الله تعالى. وقرأ جمهور القراء والناس: "أو يرسلَ" بالنصب "فيوحيَ" بالنصب أيضاً. وقرأ نافع وابن عامر وأهل المدينة: "أو يرسلُ" بالرفع "فيوحيَ" بالنصب أيضاً. وقرأ نافع وابن عامر وأهل المدينة: "أو يرسلُ" بالرفع "فيوحي" بسكون الياء ورفع الفعل. فأما القراءة الأولى فقال سيبويه: سألت الخليل عنها فقال: هي محمولة على { أن } غير التي في قوله: { أن يكلمه الله } لأن المعنى كان يفسد لو عطف على هذه، وإنما التقدير في قوله: { وحياً } إلا أن يوحي وحياً.
وقوله: { من وراء حجاب }، { من } متعلقة بفعل يدل ظاهر الكلام عليه، تقديره: أو يكلمه من وراء حجاب، ثم عطف: "أو يرسل" على هذا الفعل المقدر.
وأما القراءة الثانية فعلى أن "يرسل" في موضع الحال أو على القطع، كأنه قال: أو هو يرسل، وكذلك يكون قوله: { إلا وحياً } مصدر في موضع الحال، كما تقول: أتيتك ركضاً وعدواً، وكذلك قوله: { من وراء حجاب } في موضع الحال كما هو قوله:
{ { ويكلم الناس في المهد وكهلاً ومن الصالحين } [آل عمران: 46] في موضع الحال، فكذلك { من } [آل عمران: 46] وما عملت فيه هذه الآية أيضاً، ثم عطف قوله: "أو يرسلَ" على هذه الحال المتقدمة. وفي هذه الآية دليل على أن الرسالة من أنواع التكليم، وأن الحالف المرسل حانث إذا حلف أن لا يكلم إنساناً فأرسل إليه وهو لم ينو المشافهة وقت يمينه.
وقوله تعالى: { وكذلك أوحينا إليك } المعنى وبهذه الطرق ومن هذا الجنس أوحينا إليك أو بالرسل. والروح في هذه الآية: القرآن وهدى الشريعة سماه { روحاً } من حيث يحيي به البشر والعالم، كما يحيي الجسد بالروح، فهذا على جهة التشبيه.
وقوله تعالى: { من أمرنا } أي واحد من أمورنا، ويحتمل أن يكون الأمر بمعنى الكلام، و { من } لابتداء الغاية.
وقوله تعالى: { ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان } توقيف على مقدار النعمة. والضمير في { جعلناه } عائد على الكتاب، و. { يهدي } بمعنى يرشد.
وقرأ جمهور الناس: "وإنك لتَهدي" بفتح التاء وكسر الدال. وقرأ حوشب: "تُهدَى" بضم التاء وفتح الدال على بناء الفعل للمفعول، وفي حرف أبي: "لتدعو"، وهي تعضد قراءة الجمهور. وقرأ ابن السميفع وعاصم والجحدري: "لتُهدِي" بضم التاء وكسر الدال.
وقوله: { صراط الله } يعني صراط شرع الله ورحمته وجنته، فبهذا الوجه ونحوه من التقدير أضيف الصراط إلى الله تعالى. واستفتح القول في الإخبار بصيرورة الأمور إلى الله تعالى مبالغة وتحقيقاً وتثبيتاً، والأمور صائرة على الدوام إلى الله تعالى، ولكن جاءت هذه العبارة مستقبلة تقريباً لمن في ذهنه أن شيئاً من الأمور إلى البشر. وقال سهيل من أبي الجعد: احترق مصحف فلم يبق منه إلا قوله: { ألا إلى الله تصير الأمور }.