التفاسير

< >
عرض

فَإِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرْبَ ٱلرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ ٱلْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً حَتَّىٰ تَضَعَ ٱلْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَـٰكِن لِّيَبْلُوَاْ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ
٤
سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ
٥
وَيُدْخِلُهُمُ ٱلْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ
٦
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ
٧
وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَتَعْساً لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ
٨
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَٰلَهُمْ
٩
-محمد

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

قال ابن عباس وقتادة وابن جريج والسدي: إن هذه الآية منسوخة بآية السيف التي في براءة: { { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } [التوبة: 5] وإن الأسر والمن والفداء مرتفع، فمتى وقع أسر فإنما معه القتل ولا بد، وروي نحوه عن أبي بكر الصديق. وقال ابن عمر وعمر بن عبد العزيز وعطاء ما معناه: إن هذه الآية محكمة مبينة لتلك، والمن والفداء ثابت، وقد منَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثمامة بن أثال، وفادى أسرى بدر، وقاله الحسن، وقال: لا يقتل الأسير إلا في الحرب، يهيب بذلك على العدو. وكان عمر بن عبد العزيز يفادي رجلاً برجل، ومنع الحسن أن يفادوا بالمال. وقد أمر عمر بن عبد العزيز بقتل أسير من الترك ذكر له أنه قتل مسلمين. وقالت فرقة: هذه الآية خصصت من الأخرى أهل الكتاب فقط، ففيهم المن والفداء، وعباد الأوثان ليس فيهم إلا القتل. وعلى قول أكثر العلماء الآيتان محكمتان. وقوله هنا: { فضرب الرقاب } بمثابة قوله هناك: { { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } } [التوبة: 5] وصرح هنا بذكر المن والفداء، ولم يصرح به هنالك، وهو مراد متقرر، وهذا هو القول القوي.
وقوله: { فضرب الرقاب } مصدر بمعنى الفعل، أي فاضربوا رقابهم وعين من أنواع القتل أشهره وأعرفه فذكره، والمراد: اقتلوهم بأي وجه أمكن، وقد زادت آية:
{ { واضربوا منهم كل بنان } } [الأنفال: 12] وهي من أنكى ضربات الحرب، لأنها تعطل من المضروب جميع جسده، إذ البنان أعظم آلة المقاتل وأصلها. و: { أثخنتموهم } معناه: بالقتل. والإثخان في القوم: أن يكثر فيهم القتلى والجرحى، والمعنى: فشدوا الوثاق بمن لم يقتل ولم يترتب عليه إلا الأسر. و: { مناً } و: { فداء } مصدران منصوبان بفعلين مضمرين. وقرأ جمهور الناس: "فداء". وقرأ شبل عن ابن كثير: "فدى" مقصوراً.
وإمام المسلمين مخير في أسراه في خمسة أوجه: القتل، أو الاسترقاق، أو ضرب الجزية، أو الفداء، أو المن. ويترجح النظر في أسير أسر بحسب حاله من إذاية المسلمين أو ضد ذلك.
وقوله تعالى: { حتى تضع الحرب أوزارها } معناه: حتى تذهب وتزول أثقالها. والأوزار: الأثقال فيها والآلات لها، ومنه قول الشاعر عمرو بن معد يكرب الزبيدي:
[المتقارب]

وأعددت للحرب أوزارها رماحاً طوالاً وخيلاً ذكورا

وقال الثعلبي: وقيل الأوزار في هذه الآية: الآثام، جمع وزر، لأن الحرب لا بد أن يكون فيها آثام في أحد الجانبين.
واختلف المتأولون في الغاية التي عندها { تضع الحرب أوزارها }، فقال قتادة: حتى يسلم الجميع فتضع الحرب أوزارها. وقال حذاق أهل النظر: حتى تغلبوهم وتقتلوهم.
وقال مجاهد حتى ينزل عيسى ابن مريم.
قال القاضي أبو محمد: وظاهر الآية أنها استعارة يراد لها التزام الأمر أبداً، وذلك أن الحرب بين المؤمنين والكافرين لا تضع أوزارها، فجاء هذا كما تقول: أنا أفعل كذا إلى يوم القيامة، فإنما تريد: إنك تفعله دائماً.
وقوله تعالى: { ذلك } تقديره: الأمر ذلك. ثم قال: { ولو يشاء الله لانتصر منهم } أي بعذاب من عنده يهلكهم به في حين واحد، ولكنه تعالى أراد اختبار المؤمنين وأن يبلو بعض الناس ببعض.
وقرأ جمهور الناس: "قاتلوا" وقرأ عاصم الجحدري بخلاف عنه: "قَتَلوا" بفتح القاف والتاء. وقرأ أبو عمرو وحفص عن عاصم والأعرج وقتادة والأعمش: "قُتِلوا" بضم القاف وكسر التاء. وقرأ زيد بن ثابت والحسن والجحدري وأبو رجاء: "قُتِّلوا" بضم القاف وكسر التاء وشدها، والقراءة الأولى أعمها وأوضحها معنى. وقال قتادة: نزلت هذه الآية فيمن قتل يوم أحد من المؤمنين.
وقوله تعالى: { سيهديهم } أي إلى طريق الجنة، وقد تقدم القول في إصلاح البال. وروى عباس بن المفضل عن أبي عمرو: "ويدخلهم" بسكون اللام. وفي سورة [التغابن]
{ { يوم يجمعكم } } [التغابن: 9] وفي سورة [الإنسان] { { إنما نطعمكم } [الإنسان: 9] بسكون العين والميم.
وقوله تعالى: { عرفها لهم } قال أبو سعيد الخدري وقتادة معناه: بينها لهم، أي جعلهم يعرفون منازلهم منها، وفي نحو هذا المعنى هو قول النبي عليه السلام:
"لأحدكم بمنزله في الجنة أعرف منه بمنزله في الدنيا" . وقالت فرقة معناه: سماها لهم ورسمها، كل منزل باسم صاحبه، فهذا نحو من التعريف. وقالت فرقة معناه: شرفها لهم ورفعها وعلاها، وهذا من الأعراف التي هي الجبال وما أشبهها، ومنه أعراف الخيل. وقال مؤرج وغيره معناه: طيبها مأخوذ من العرف، ومنه طعام معرف، أي مطيب. وعرفت القدر: طيبتها بالملح والتابل.
وقوله تعالى: { إن تنصروا الله } فيه حذف مضاف، أي دين الله ورسوله، والمعنى: تنصروه بجدكم واتباعكم وإيمانكم { ينصركم } بخلق القوة لكم والجرأة وغير ذلك من المعاون.
وقرأ جمهور الناس: "ويثبّت" بفتح التاء المثلثة وشد الباء. وقرأ المفضل عن عاصم: "ويثْبِت" بسكون الثاء وتخفيف الباء، وهذا التثبيت هو في مواطن الحرب على الإسلام، وقيل على الصراط في القيامة.
وقوله تعالى: { فتعساً لهم } معناه: عثاراً وهلاكاً فيه، وهي لفظة تقال للعاثر إذا أريد به الشر، ومنه قول الشاعر: [المنسرح]

يا سيدي إن عثرت خذ بيدي ولا تقل: لا، ولا تقل تعسا

وقال الأعشى: [البسيط]

بذات لوت عفرناة إذا عثرت فالتعس أدنى لها من أن أقول لعا

ومنه قول أم مسطح لما عثرت في مرطها: تعس مسطح. قال ابن السكيت: التعس أن يخر على وجهه. و: { تعساً } مصدر نصبه فعل مضمر.
وقوله تعالى: { كرهوا ما أنزل الله } يريد القرآن. وقوله: { فأحبط أعمالهم } يقتضي أن أعمالهم في كفرهم التي هي بر مقيدة محفوظة، ولا خلاف أن الكافر له حفظة يكتبون سيئاته. واختلف الناس في حسناتهم، فقالت فرقة: هي ملغاة يثابون عليها بنعم الدنيا فقط. وقالت فرقة: هي محصاة من أجل ثواب الدنيا، ومن أجل أنه قد يسلم فينضاف ذلك إلى حسناته في الإسلام، وهذا أحد التأويلين في
" قول النبي عليه السلام لحكيم بن حزام: أسلمت على ما سلف لك من خير" .فقوم قالوا تأويله: أسلمت على أن يعد لك ما سلف من خير، وهذا هو التأويل الذي أشرنا إليه. وقالت فرقة معناه: أسلمت على إسقاط ما سلف لك من خير، إذ قد ثوبت عليه بنعم دنياك. وذكر الطبري أن أعمالهم التي أخبر في هذه الآية بحبطها: عبادتهم الأصنام وكفرهم. ومعنى: { أحبط } جعلها من العمل الذي لا يزكو ولا يعتد به، فهي لذلك كالذي أحبط.