التفاسير

< >
عرض

إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً
١
لِّيَغْفِرَ لَكَ ٱللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً
٢
وَيَنصُرَكَ ٱللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً
٣
هُوَ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ ٱلْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوۤاْ إِيمَٰناً مَّعَ إِيمَٰنِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً
٤
-الفتح

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

قال قوم فيما حكى الزهراوي { فتحنا لك } يريد به فتح مكة، وحكاه الثعلبي أيضاً، ونسبه النقاش إلى الكلبي. وأخبره تعالى به على معنى: قضينا به. والفتاح: القاضي بلغة اليمن، وقيل المراد: { إنا فتحنا لك } بأن هديناك إلى الإسلام ليغفر. وقال جمهور الناس: والصحيح الذي تعضده قصة الحديبية أن قوله: { إنا فتحنا لك } إنما معناه: إن ما يسر الله لك في تلك الخرجة فتح مبين تستقبله، ونزلت السورة مؤنسة للمؤمنين، لأنهم كانوا استوحشوا من رد قريش لهم ومن تلك المهادنة التي هادنهم النبي عليه السلام فنزلت السورة مؤنسة لهم في صدهم عن البيت ومذهبه: ما كان في قلوبهم، ومنه حديث عمر الشهير وما قاله للنبي عليه السلام ولأبي بكر واستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك السفرة أنه هادن عدوه ريثما يتقوى هو، وظهرت على يديه آية الماء في بئر الحديبية حيث وضع فيه سهمه وثاب الماء حتى كفى الجيش، واتفقت بيعة الرضوان وهي الفتح الأعظم، قاله جابر بن عبد الله والبراء ابن عازب. وبلغ هديه محله، قاله الشعبي واستقبل فتح خيبر، وامتلأت أيدي المؤمنين خيراً، ولم يفتحها إلا أهل الحديبية ولم يشركهم فيها أحد.
قال القاضي أبو محمد: وفيه نظر، لأن أصحاب السفينة مع جعفر بن أبي طالب شاركوهم في القسم، فينبغي أن يقال لم يشاركهم أحد من المتخلفين عن الحديبية، واتفقت في ذلك الوقت ملحمة عظيمة بين الروم وفارس ظهرت فيها الروم، فكانت من جملة الفتح على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسر بها هو والمؤمنون لظهور أهل الكتاب على المجوس وانخضاد الشوكة العظمى من الكفر.
ثم عظم الله أمر نبيه بأن نبأه أنه غفر له { ما تقدم } من ذنبه { وما تأخر }، فقوله: { ليغفر } هي لام كي، لكنها تخالفها في المعنى والمراد هنا أن الله فتح لك لكي يجعل ذلك أمارة وعلامة لغفرانه لك، فكأنها لام صيرورة، ولهذا قال عليه السلام:
"لقد أنزلت عليَّ الليلة سورة هي أحب إليّ من الدنيا" . وقال الطبري وابن كيسان المعنى: { إنا فتحنا لك } فسبح بحمد ربك واستغفره ليغفر لك، وبنيا هذه الآية مع قوله تعالى: { { إذا جاء نصر الله والفتح } [النصر: 1] السورة إلى آخرها.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف من وجهين أحدهما: أن سورة،
{ { إذا جاء نصر الله والفتح } } [النصر: 1] إنما نزلت من أخر مدة النبي عليه السلام ناعية له نفسه حسبما قال ابن عباس عندما سأل عمر عن ذلك. والآخر: أن تخصيص النبي عليه السلام بالتشريف كان يذهب، لأن كل أحد من المؤمنين هو مخاطب بهذا الذي قال الطبري، أي سبح واستغفر لكي يغفر الله، ولا يتضمن هذا أن الغفران قد وقع، وما قدمناه أولاً يقتضي وقوع الغفران للنبي عليه السلام، ويدل على ذلك " قول الصحابة له حين قام حتى تورمت قدماه: أتفعل هذا يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: أفلا أكون عبداً شكوراً" فهذا نص في أن الغفران قد وقع. وقال منذر بن سعيد المعنى: مجاهدتك بالله المقترنة بالفتح هي ليغفر. وحكى الثعلبي عن الحسن بن الفضل أن المعنى: { إنا فتحنا لك } فاستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات { ليغفر لك } الآية، وهذا نحو قول الطبري.
وقوله: { ما تقدم من ذنبك وما تأخر } قال سفيان الثوري: { ما تقدم } يريد قبل النبوءة. { وما تأخر } كل شيء لم تعلمه وهذا ضعيف، وإنما المعنى التشريف بهذا الحكم ولو لم تكن له ذنوب البتة، وأجمع العلماء علىعصمة الأنبياء عليهم السلام من الكبائر ومن الصغائر التي هي رذائل، وجوز بعضهم الصغائر التي ليست برذائل، واختلفوا هل وقع ذلك من محمد عليه السلام أو لم يقع، وحكى الثعلبي عن عطاء الخراساني أنه قال: { ما تقدم } هو ذنب آدم وحواء، أي ببركتك { وما تأخر } هي ذنوب أمتك بدعائك. قال الثعلبي: الإمامية لا تجوز الصغائر على النبي ولا على الإمام، والآية ترد عليهم. وقال بعضهم: { وما تقدم } هو قوله يوم بدر:
"اللهم إن تهلك هذه العصابة لن تعبد" . { وما تأخر } هو قوله يوم حنين: "لن نغلب اليوم من قلة" .
قال القاضي أبو محمد: وإتمام النعمة عليه، هو إظهاره وتغلبه على عدوه والرضوان في الآخرة.
وقوله تعالى: { ويهديك صراطاً مستقيماً } معناه: إلى صراط، فحذف الجار فتعدى الفعل، وقد يتعدى هذا بغير حرف جر، والنصر العزيز: هو الذي معه غلبة العدو والظهور عليه، والنصر غير العزيز: هو الذي مضمنه الحماية ودفع العدو فقط. وإنزال السكينة في قلوب المؤمنين: وهي فعلية من السكون هو تسكينها لتلك الهدنة مع قريش حتى اطمأنت، وعلموا أن وعد الله على لسان رسوله حق فازدادوا بذلك إيماناً إلى إيمانهم الأول وكثر تصديقهم. قال ابن عباس: لما آمنوا بالتوحيد زادهم العبادات شيئاً شيئاً. فكانوا يزيدون إيماناً حتى قال لهم:
{ اليوم أكملت لكم دينكم } [المائدة: 3] فمنحهم أكمل إيمان أهل السماوات والأرض لا إله إلا الله. وفسر ابن عباس { السكينة } بالرحمة.
وقوله: { ولله جنود السماوات والأرض } إشارة إلى تسكين النفوس أيضاً وأن تكون مسلمة، لأنه ينصر متى شاء وعلى أي صورة شاء مما لا يدبره البشر، ومن جنده: { السكينة } التي أنزلها في قلوب أصحاب محمد فثبت بصائرهم.
وقوله تعالى: { وكان الله } أي كان ويكون، فهي دالة على الوجود بهذه الصفة لا معينة وقتاً ماضياً. والعلم والإحكام: صفتان مقتضيتان عزة النصر لمن أراد الموصوف بهما نصره.