التفاسير

< >
عرض

وَمِنَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَىٰ أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ ٱللَّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ
١٤
يَا أَهْلَ ٱلْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ ٱلْكِتَابِ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ
١٥
يَهْدِي بِهِ ٱللَّهُ مَنِ ٱتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ ٱلسَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُمْ مِّنِ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
١٦
لَّقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَآلُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ ٱلْمَسِيحَ ٱبْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً وَللَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
١٧
-المائدة

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

{ من } متعلقة { بأخذنا } التقدير: وأخذنا من الذين قالوا إنّا نصارى ميثاقهم، ويحتمل أن يكون قوله { ومن } معطوف على قوله { { خائنة منهم } [المائدة: 13]، ويكون قوله { أخذنا ميثاقهم } ابتداء خبر عنهم، والأول أرجح. وعلق كونهم نصارى بقولهم ودعواهم، من حيث هو اسم شرعي يقتضي نصر دين الله، وسموا به أنفسهم دون استحقاق ولا مشابهة بين فعلهم وقولهم، فجاءت هذه العبارة موبخة لهم مزحزحة عن طريق نصر دين الله وأنبيائه، وقوله تعالى: { فأغرينا بينهم } معناه أثبتناها بينهم وألصقناها، والإغراء مأخوذ من الغراء الذي يلصق به، والضمير في { بينهم } يحتمل أن يعود على اليهود والنصارى لأن العداوة بينهم، موجودة مستمرة، ويحتمل أن يعود على النصارى فقط لأنها أمة متقاتلة بينها الفتن إلى يوم القيامة، ثم توعدهم الله تعالى بعقاب الآخرة إذ أنباؤهم بصنعهم إنما هو تقرير وتوبيخ للعذاب، إذ صنعهم كفر يوجب الخلود في النار.
وقوله تعالى: { يا أهل الكتاب } لفظ يعم اليهود والنصارى ولكن نوازل الإخفاء كالرحم وغيره إنما حفظت لليهود، لأنهم كانوا مجاوري رسول الله صلى الله عليه وسلم في مهاجره، وقال محمد بن كعب القرظي: أول ما نزل من هذه السورة هاتان الآيتان في شأن اليهود والنصارى، ثم نزل سائر السورة بعرفة في حجة الوداع وقوله: { رسولنا } يعني محمداً صلى الله عليه وسلم، وفي الآية الدالة على صحة نبوته. لأن إعلامه بخفيّ ما في كتبهم وهو أمي لا يقرأ ولا يصحب القراءة دليل على أن ذلك إنما يأتيه من عند الله تبارك وتعالى، وأشهر النوازل التي أخفوها فأظهرها الله على لسان نبيه أمر الرجم، وحديثه مشهور. ومن ذلك صفات محمد صلى الله عليه وسلم إلى غير ذلك. و { من الكتاب } يعني من التوراة وقوله: { ويعفو عن كثير } معناه ويترك كثيراً لا يفضحكم فيه إبقاء عليكم. وهذا المتروك هو في معنى افتخارهم ووصفهم أيام الله قبلهم ونحو ذلك مما لا يتعين في ملة الإسلام فضحهم فيه وتكذيبهم، والفاعل في { يعفو } هو محمد صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يستند الفعل إلى الله تعالى وإذا كان العفو من النبي عليه السلام فبأمر ربه، وإن كان من الله تعالى فعلى لسان نبيه عليه السلام، والاحتمالان قريب بعضهما من بعض.
قوله عز وجل: { نور وكتاب مبين } يحتمل أن يريد محمداً صلى الله عليه وسلم والقرآن، وهذا هو ظاهر الألفاظ، ويحتمل أن يريد موسى عليه السلام والتوراة، أي ولو اتبعتموها حق الاتباع لآمنتم بمحمد، إذ هي آمرة بذلك مبشرة به، وقرأ عبيد بن عمير والزهري وسلام وحميد ومسلم بن جندب "بهُ اللهُ" بضم الهاء حيث وقع مثله، و { اتبع رضوانه } معناه بالتكسب والنية والإقبال عليه، والسبل الطرق، والقراءة في "رُضوان" بضم الراء وبكسرها وهما لغتان، وقد تقدم ذكر ذلك وقرأ ابن شهاب والحسن بن أبي الحسن " سبْل" ساكنة الباء. و { السلام } في هذه الآية يحتمل أن يكون اسماً من أسماء الله تعالى، فالمعنى طرق الله تعالى التي أمر بها عباده وشرعها لهم، ويحتمل أن يكون مصدراً كالسلامة فالمعنى طرق النجاة والسلامة من النار، وقوله تعالى: { ويخرجهم } يعني المتبعين الرضوان، فالضمير على معنى من لا على لفظها، و { الظلمات } الكفر، و { النور } الإيمان، وقوله تعالى: { بإذنه } أي يمكنهم من أقوال الإيمان وأفعاله، ويعلم فعلهم لذلك والتزامهم إياه، فهذا هو حد الإذن، العلم بالشيء والتمكين منه، وقد تقدم شرحه في سورة البقرة والصراط المستقيم هو دين الله وتوحيده وما تركب عليه من شرعه.
ثم أخبر تعالى بكفر النصارى القائلين بأن الله هو المسيح، وهذه فرقة من النصارى وكل فرقهم على اختلال أقوالهم يجعل للمسيح عليه السلام حظاً من الألوهية، وقد تقدم القول في لفظ { المسيح } في سورة آل عمران، ثم رد عليهم تعالى قوله لنبيه: { قل فمن يملك من الله شيئاً } أي لا مالك ولا رادَّ لإرادة الله تعالى في المسيح ولا في غيره فهذا مما تقضي العقول معه أن من تنفذ الإرادة فيه ليس بإله، ثم قرر تعالى ملكه في السموات والأرض وما بينهما فحصل المسيح عليه السلام أقل أجزاء ملك الله تعالى، وقوله تعالى: { يخلق ما يشاء } إشارة إلى خلقه المسيح في رحم مريم من غير والد. بل اختراعاً كآدم عليه السلام، وقد تقدم في آل عمران الفرق بين قوله تعالى في قصة زكرياء
{ { يفعل ما يشاء } [آل عمران:40] وفي قصة مريم { يخلق ما يشاء } وقوله تعالى: { والله على كل شيء قدير } عموم معناه الخصوص في ما عدا الذات والصفات والمحالات، والشيء في اللغة هو الموجود.