التفاسير

< >
عرض

وَحَسِبُوۤاْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثُمَّ تَابَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ
٧١
لَقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ ٱلْمَسِيحُ يَابَنِيۤ إِسْرَائِيلَ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ ٱللَّهُ عَلَيهِ ٱلْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ ٱلنَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ
٧٢
-المائدة

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

المعنى في هذه الآية وظن هؤلاء الكفرة والعصاة من بني إسرائيل أن لا يكون من الله ابتلاء لهم وأخذ في الدنيا وتمحيص فلجوا في شهواتهم وعموا فيها إذ لم يبصروا الحق شبهوا بالصم، ونحو هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: "حبك الشيء يعمي ويصم" وقوله تعالى: { ثم تاب الله عليهم } قالت جماعة من المفسرين: هذه التوبة هي ردهم إلى بيت المقدس بعد الإخراج الأول ورد ملكهم وحالهم، ثم عموا وصموا بعد ذلك حتى أخرجوا الخرجة الثانية ولم ينجبروا أبداً وقالت جماعة ثم تاب الله عليهم ببعث عيسى عليه السلام إليهم، وقالت جماعة: توبته تعالى عليهم بعث محمد عليه السلام وخص بهذا المعنى كثيراً منهم لأن منهم قليلاً آمن، ثم توعدهم بقوله تعالى: { والله بصير بما يعملون } وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر "ألا تكونَ" بنصب النون، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي " أن لا تكونُ " برفع النون، ولم يختلفوا في رفع { فتنةٌ } لأن "كان" هنا هي التامة، فوجه قراءة النصب أن تكون "أن" هي الخفيفة الناصبة، ووجه قراءة الرفع أن تكون المخففة من الثقيلة، وحسن دخولها لأن "لا" قد وطأت أن يليها الفعل وقامت مقام الضمير المحذوف عوضاً منه، ولا بد في مثل هذا من عوض، مثل قولك علمت أن قد يقوم زيد، وقوله عز وجل { { علم أن سيكون منكم مرضى } [المزمل: 20] وقولك علمت أن سوف يقوم زيد وأن لا تكون فتنة، وقوله تعالى { { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } [النجم:39] حسن فيه أن لا يكون عوض لأن ليس بفعل حقيقي والأفعال ثلاثة ضروب ضرب يجري مجرى تيقنت نحو علمت ودريت فهذا الضرب تليه "أن" الثقيلة التي تناسبه في الثبوت وحصول الوقوع، وضرب في الضد من ذلك نحو طمعت ورجوت وخفت هو مصرح بأن لم يقع، فهذا الضرب تليه "أنْ" الخفيفة إذ هي تناسبه، كقوله تعالى، { { والذي أطمع أن يغفر لي } [الشعراء:82] { { وتخافون أن يتخطفكم الناس } [الأنفال:26] { { فإن خفتم ألا يقيما حدود الله } [البقرة:229] و { { فخشينا أن يرهقهما طغياناً } [الكهف:80] أشفقتم نحو ظننت وحسبت وزعمت فيجري مجرى أرجو وأطمع، من حيث الظن والزعم والمحسبة أمور غير ثابتة ولا مستقرة، وقد تنزل منزلة العلم من حيث تستعمل استعماله، كقوله تعالى: { { والذين يظنون أنهم ملاقو ربهم } [البقرة:46] وقوله { { إني ظننت أني ملاق حسابيه } [الحاقة:20] وقرأ جمهور الناس "عَموا وصَموا" بفتح العين والصاد، وقرأ ابن وثاب والنخعي "عُموا وصُموا" بضم العين والميم مخففة وبضم الصاد وهذا هو على أن تجرى مجرى زكم الرجل وأزكمه الله وحم الرجل وأحمه الله، ولا يقال زكمه الله ولا حمه الله، فكذلك يجيء هذا عمى الرجل وأعماه غيره، وصم وأصمه غيره، ولا يقال عميته ولا صممته، وقوله تعالى: { ثم تاب الله عليهم } أي رجع بهم إلى الطاعة والحق، ومن فصاحة اللفظ استناد هذا الفعل الشريف إلى الله تعالى، واستناد العمى والصمم اللذين هما عبارة عن الضلال إليهم، وقوله تعالى { كثير } يرتفع من إحدى ثلاث جهات، إما على البدل من الواو في قوله { عموا وصموا } وإما على جمع الفعل وإن تقدم على لغة من قال: أكلوني البراغيث، وإما على أن يكون { كثير } خبر ابتداء مضمر.
ثم أخبر تعالى إخباراً مؤكداً بلام القسم عن كفر القائلين: { إن الله هو المسيح ابن مريم } وهذا قول اليعقوبية من النصارى، ثم أخبر تعالى عن قول المسيح لهم وتبليغه كيف كان؟ قال: { وقال المسيح يا بني إسرائيل } الآية، وهذه المعاني قول المسيح بألفاظ لغته، وهي بعينها موجودة في تبليغ محمد صلى الله عليه وسلم في قوله
{ { إن الله لا يغفر أن يشرك به } [النساء:48 - 116] إلى غير ذلك من الآيات، وأخبرهم عيسى عليه السلام أن الله تعالى هو ربه وربهم فضلوا هم وكفروا بسبب ما رأوا على يديه من الآيات، و " المأوى " هو المحل الذي يسكنه المرء ويرجع إليه، وقوله تعالى { وما للظالمين من أنصار } يحتمل أن يكون من قول عيسى عليه السلام لبني إسرائيل، ويحتمل أن يكون إخباراً مستأنفاً لمحمد صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم القول في تفسير لفظة المسيح في سورة آل عمران.