التفاسير

< >
عرض

مَا يُبَدَّلُ ٱلْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ
٢٩
يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ ٱمْتَلأَتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ
٣٠
وَأُزْلِفَتِ ٱلْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ
٣١
هَـٰذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ
٣٢
مَّنْ خَشِيَ ٱلرَّحْمَـٰنَ بِٱلْغَيْبِ وَجَآءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ
٣٣
ٱدْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ ذَلِكَ يَوْمُ ٱلُخُلُودِ
٣٤
لَهُم مَّا يَشَآءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ
٣٥

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

المعنى: قدمت بالوعيد أني أعذب الكفار في ناري، فلا يبدل قولي ولا ينقص ما أبرمه كلامي، ثم أزال عز وجل موضع الاعتراض بقوله: { وما أنا بظلام للعبيد } أي هذا عدل فيهم، لأني أعذرت وأمهلت وأنعمت بالإدراكات وهديت السبيل والنجدين وبعثت الرسل وقال الفراء معنى قوله: { ما يبدل القول لدي } ما يكذب لدي، لعلمي بجميع الأمور.
قال القاضي أبو محمد: فتكون الإشارة على هذا إلى كذب الذي قال:
{ ما أطغيته } [ق: 27] وقوله تعالى: { يوم يقول } يجوز أن يعمل في الظرف قوله: { بظلام } ويجوز أن يعمل فيه فعل مضمر.
وقرأ جمهور من القراء وحفص عن عاصم: "نقول" بالنون، وهي قراءة الحسن وأبي رجاء وأبي جعفر والأعمش ورجحها أبو علي بما تقدم من قوله: "قدمت وما أنا" وقرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر: "يقول" على معنى يقول الله، وهي قراءة الأعرج وشيبة وأهل المدينة، وقرأ ابن مسعود والحسن والأعمش أيضاً: "يقال" على بناء الفعل للمفعول.
وقوله: { هل امتلأت } تقرير وتوقيف، واختلف الناس هل وقع هذا التقرير؟ وهي قد امتلأت أو هي لم تمتلئ فقال بكل وجه جماعة من المتأولين وبحسب ذلك تأولوا قولها: { هل من مزيد }. فمن قال إنها كانت ملأى جعل قولها: { هل من مزيد } على معنى التقرير ونفي المزيد، أي هل عندي موضع يزاد فيه شيء ونحو هذا التأويل قول النبي صلى الله عليه وسلم:
"وهل ترك لنا عقيل منزلاً" ، وهو تأويل الحسن وعمرو وواصل، ومن قال: إنها كانت غير ملأى جعل قولها { هل من مزيد } على معنى السؤال والرغبة في الزيادة. قال الرماني وقيل المعنى: وتقول خزنتها، والقول إنها القائلة أظهر.
واختلف الناس أيضاً في قول جهنم هل هو حقيقة أو مجاز؟ أي حالها حال من لو نطق لقال كذا وكذا فيجري هذا مجرى: شكا إلي جملي طول السرى، ومجرى قول ذي الرمة: تكلمني أحجاره وملاعبه.
والذي يترجح في قول جهنم: { هل من مزيد } أنها حقيقة وأنها قالت ذلك وهي غير ملأى وهو قول أنس بن مالك، وبين ذلك الحديث الصحيح المتواتر قول النبي صلى الله عليه وسلم:
"يقول الله لجهنم هل امتلأت؟ وتقول: { هل من مزيد } حتى يضع الجبار فيها قدمه، فتقول قط قط، وينزوي بعضها إلى بعض" واضطرب الناس في معنى هذا الحديث، وذهبت جماعة من المتكلمين، إلى أن الجبار اسم جنس، وأنه يريد المتجبرين من بني آدم، وروي أن الله تعالى يعد من الجبابرة طائفة يملأ بهم جهنم آخراً. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن جلدة الكافر يصير في غلظها أربعون ذراعاً" ويعظم بدنه على هذه النسبة، وهذا كله من ملء جهنم وذهب الجمهور إلى أن الجبار اسم الله تعالى، وهذا هو الصحيح، فإن في الحديث الصحيح: "فيضع رب العالمين فيها قدمه" وتأويل هذا: ان القدم لها من خلقه وجعلهم في علمه ساكنيها، ومنه قول الله تعالى: { { وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم } } [يونس: 2] فالقدم هنا ما قدم من شيء ومنه قول الشاعر [الوضاح الخصي]: [المنسرح]

صل لربك واتخذ قدماً ينجيك يوم العثار والزلل

ومنه قول العجاج: [الرمل]

وسنى الملك لملك ذي قدم

أي ذي شرف متقدم، وهذا التأويل مروي عن ابن المبارك وعن النضر بن شميل، وهو قول الأصوليين. وفي كتاب مسلم بن الحجاج: فيضع الجبار فيها رجله، ومعناه: الجمع الذي أعد لها يقال للجمع الكثير من الناس: رجل تشبيهاً برجل الجراد، قال الشاعر:

فمر بها رجل من الناس وانزوى إليها من الحي اليمانين أرجل.

وملاك النظر في هذا الحديث: أن الجارحة والتشبيه وما جرى مجراه منتف كل ذلك فلم يبق إلا إخراج ألفاظ على هذه الوجوه السابقة في كلام العرب. و: { أزلفت } معناه: قربت، و: { غير بعيد } تأكيد وبيان أن هذا التقدير هو في المسافة، لأن قربت كان يحتمل أن معناه: بالوعد والإخبار، فرفع الاحتمال بقوله: { غير بعيد }.
وقوله تعالى: { هذا ما توعدون } الآية، يحتمل أن يكون معناه: يقال لهم في الآخرة عند إزلاف الجنة هذا هو الذي كنتم توعدون في الدنيا، ويحتمل أن يكون المعنى خطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، أي هذا الذي توعدون به أيها الناس { لكل أواب حفيظ }. والأواب: الرجاع إلى الطاعة وإلى مراشد نفسه. وقال ابن عباس وعطاء: الأواب: المسبح لقوله:
{ { يا جبال أوبي معه } [سبأ: 10]. وقال الشعبي ومجاهد: هو الذي يذكر ذنوبه فيستغفر. وقال المحاسبي: هو الراجح بقلبه إلى ربه. وقال عبيد بن عمير: كنا نحدث أنه الذي إذا قام من مجلسه استغفر الله مما جرى في ذلك المجلس وكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل. والحفيظ معناه: بأوامر الله فيمتثلها، أو لنواهيه فيتركها. وقال ابن عباس: { حفيظ } لذنوبه حتى يرجع عنها.
وقوله تعالى: { من خشي } يحتمل أن يكون { من } نعت الأواب أو بدلاً. ويحتمل أن يكون رفعاً بالابتداء والخبر يقال لهم { ادخلوها }، ويحتمل أن تكون شرطية فيكون الجواب يقال لهم ادخلوها. وقوله: { بالغيب } أي غير مشاهد له إنما يصدق رسوله ويسمع كلامه وجاء معناه يوم القيامة. والمنيب الراجع إلى الخير المائل إليه. وقوله تعالى: { ادخلوها } تقديره يقال لهم على ما تقدم. و { بسلام } معناه بأمن وسلامة من جميع الآفات. وقوله تعالى: { ذلك يوم الخلود } معادل لقوله قبل في الكفار
{ { ذلك يوم الوعيد } [ق: 20].
وقوله تعالى: { لهم ما يشاؤون فيها ولدينا مزيد } خبر بأنهم يعطون آمالهم أجمع. ثم أبهم تعالى الزيادة التي عنده للمؤمنين المنعمين، وكذلك هي مبهمة في قوله تعالى:
{ { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين } [السجدة: 17] وقد فسر ذلك الحديث الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر بل ما أطلعتهم عليه" . وقد ذكر الطبري وغيره في تعيين هذا المزيد أحاديث مطولة وأشياء ضعيفة، لأن الله تعالى يقول: { { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم } [السجدة: 17] وهم يعينونها تكلفاً وتعسفاً. وروي عن جابر بن عبد الله وأنس بن مالك أن المزيد: النظر إلى وجه الله تعالى بلا كيف.