التفاسير

< >
عرض

أَتَوَاصَوْاْ بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ
٥٣
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَآ أَنتَ بِمَلُومٍ
٥٤
وَذَكِّرْ فَإِنَّ ٱلذِّكْرَىٰ تَنفَعُ ٱلْمُؤْمِنِينَ
٥٥
وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ
٥٦
مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ
٥٧
إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلرَّزَّاقُ ذُو ٱلْقُوَّةِ ٱلْمَتِينُ
٥٨
فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذَنُوباً مِّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلاَ يَسْتَعْجِلُونِ
٥٩
فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن يَوْمِهِمُ ٱلَّذِي يُوعَدُونَ
٦٠
-الذاريات

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

قوله تعالى: { أتواصوا به } توقيف وتعجيب من توارد نفوس الكفرة في تكذيب الأنبياء على تفرق أزمانهم أي أنهم لم يتواصوا، لكنهم فعلوا فعل من يتواصى.
والعلة في ذلك أن جميعهم طاغ، والطاغي: المستعلي في الأرض المفسد العاتي على الله.
وقوله تعالى: { فتول عنهم } أي عن الحرص المفرط عليهم، وذهاب النفس حسرات، ويحتمل أن يراد: فقول عن التعب المفرط في دعائهم وضمهم إلى الإسلام فلست بمصيطر عليهم ولست { بملوم } إذ قد بلغت، فنح نفسك عن الحزن عليهم، وذكر فقط، فإن الذكرى نافعة للمؤمنين ولمن قضي له أن يكون منهم في ثاني حال، وعلى هذا التأويل: فلا نسخ في الآية. إلا في معنى الموادعة التي فيها، إن آية السيف نسخت جميع الموادعات.
وروى قتادة وذكره الطبري عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه لما نزلت { فتول عنهم فما أنت بملوم } حزن المسلمون وظنوا أنه مر بالتوالي عن الجميع وأن الوحي قد انقطع حتى نزلت: { وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين } فسروا بذلك.
وقوله تعالى: { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } اختلف الناس في معناه مع إجماع أهل السنة على أن الله تعالى لم يرد أن تقع العبادة من الجميع، لأنه لو أراد ذلك لم يصح وقوع الأمر بخلاف إرادته، فقال ابن عباس وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما المعنى: ما خلقت الجن والإنس إلا لآمرهم بعبادتي، وليقروا لي بالعبودية فعبر عن ذلك بقوله: { ليعبدون } إذ العبادة هي مضمن الأمر، وقال زيد بن أسلم وسفيان: المعنى خاص، والمراد: { وما خلقت } الطائعين من { الجن والإنس } إلا لعبادتي، ويؤيد هذا التأويل أن ابن عباس روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ: "وما خلقت الجن والإنس من المؤمنين إلا ليعبدوني"، وقال ابن عباس أيضاً معنى: { ليعبدون } أي ليتذللوا لي ولقدرتي، وإن لم يكن ذلك على قوانين الشرع.
قال القاضي أبو محمد: وعلى هذا التأويل فجميع الجن والإنس عابد متذلل والكفار كذلك، ألا تراهم عند القحط والأمراض وغير ذلك. وتحتمل الآية، أن يكون المعنى: ما خلقت الجن والإنس إلا معدين ليعبدون، وكأن الآية تعديد نعمة، أي خلقت لهم حواس وعقولاً وأجساماً منقادة نحو العبادة، وهذا كما تقول: البقر مخلوقة للحرث، والخيل للحرب، وقد يكون منها ما لا يحارب به أصلاً، فالمعنى أن الإعداد في خلق هؤلاء إنما هو للعبادة، لكن بعضهم تكسب صرف نفسه عن ذلك، ويؤيد هذا المنزع قول النبي صلى الله عليه وسلم:
"اعملوا فكل ميسر لما خلق له" . وقوله: "كل مولود يولد على الفطرة" والحديث، وقوله: { من رزق } أي أن يرزقوا أنفسهم ولا غيرهم.
وقوله: { أن يطمعون } إما أن يكون المعنى أن يطمعوا خلقي فإضيف ذلك إلى الضمير على جهة التجوز، وهذا قول ابن عباد. وإما أن يكون الإطعام هنا بمعنى النفع على العموم، كما تقول: أعطيت فلاناً كذا وكذا طعمة، وأنت قد أعطيته عرضاً أو بلداً يحييه، ونحو هذا فكأنه قال: ولا أريد أن ينفعوني، فذكر جزءاً من المنافع وجعله دالاً على الجميع.
وقرأ الجميع: "إن الله هو الرزاق". وروى أبو إسحاق السبيعي عن عبد الله بن يزيد، قال أبو عمرو الداني عن ابن مسعود قال: أقراني رسول الله صلى الله عليه وسلم "إني أنا الرزاق" وقرأ الجمهور: "إن الله هو الرزاق" وقرأ ابن محيصن "هو الرازق"
وقرأ جمهور القراء: "المتينُ" بالرفع إما على أنه خبر بعد خبر، أو صفة لـ { الرزاق }. وقرأ يحيى بن وثاب، والأعمش "المتينِ" بالخفض على النعت لـ { القوة }، وجاز ذلك من حيث تأنيث { القوة } غير حقيقي. فكأنه قال: ذو الأيد، أو ذو الحبل ونحوه
{ { فمن جاءه موعظة } [البقرة: 275] وجوز أبو الفتح أن يكون خفض "المتينِ" علىالجواز و: { المتين }: الشديد.
وقوله تعالى: { فإن للذين ظلموا } يريد أهل مكة، وهذه آية وعيد صراح، وقرأ الأعمش "فإن للذين كفروا". والذنوب: الحظ والنصيب، وأصله من الدلو، وذلك أن الذنوب هو ملء الدلو من الماء، وقيل الذنوب: الدلو العظيمة، ومنه قول الشاعر: [الرجز]

إنا إذا نازلنا غريب له ذنوب ولنا ذنوب
فإن أبيتم فلنا القليب

وهو السجل، ومنه قول علقمة بن عبدة: [الطويل]

وفي كل حي قد خبطت بنعمة فحق لشأس من نداك ذنوب

فيروى أن الملك لما سمع هذا البيت قال نعم وأذنبة، ومنه قول حسان: [الطويل]

لا يبعدن ربيعة بن مكدم وسقى الغوادي قبره بذنوب

و { أصحابهم } يريد به من تقدم من الأمم المعذبة. وقوله: { فلا يستعجلون } تحقيق للأمر، بمعنى هو نازل بهم لا محالة في وقته المحتوم، فلا يستعجلوه، وقرأ يحيى بن وثاب: "فلا تستعجلون" بالتاء من فوق.
ثم أوجب تعالى لهم الويل من يومهم الذي يأتي فيه عذابهم. والويل: الشقاء والهم، وروي أن في جهنم وادياً يسمى: ويلاً. والطبري يذهب أبداً إلى أن التوعد إنما هو به، وذلك في هذا الموضع قلق، لأن هذا الويل إنما هو { من يومهم } الذي هو في الدنيا، و: { من } لابتداء الغاية. وقال جمهور المفسرين: هذا التوعد هو بيوم القيامة. وقال آخرون ذكره الثعلبي هو يوم بدر. وفي: { يوعدون } ضمير عائد، التقدير: يوعدون به، أو يوعدونه.
نجز تفسير سورة "الذاريات" والحمد لله رب العالمين كثيراً، وصلى الله عليه سيدنا محمد خاتم النبيين وإمام المرسلين وعلى آله الطيبين الطاهرين وعن جميع تابعيه.