التفاسير

< >
عرض

وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ
٣٩
وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ
٤٠
ثُمَّ يُجْزَاهُ ٱلْجَزَآءَ ٱلأَوْفَىٰ
٤١
وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلْمُنتَهَىٰ
٤٢
وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَىٰ
٤٣
وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا
٤٤
وَأَنَّهُ خَلَقَ ٱلزَّوْجَيْنِ ٱلذَّكَرَ وَٱلأُنثَىٰ
٤٥
مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَىٰ
٤٦
وَأَنَّ عَلَيْهِ ٱلنَّشْأَةَ ٱلأُخْرَىٰ
٤٧
وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَىٰ وَأَقْنَىٰ
٤٨
وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ ٱلشِّعْرَىٰ
٤٩
وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً ٱلأُولَىٰ
٥٠
وَثَمُودَ فَمَآ أَبْقَىٰ
٥١
-النجم

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

قوله تعالى: { وأن ليس للإنسان } وقوله بعد ذلك { وأنه }، { وأنه } معطوف كل ذلك على أن المقدرة أولاً في قوله: "أنه لا تزر" وهي كلها بفتح الألف في قراءة الجمهور. وقرأ أبو السمال قعنب "وإن إلى ربك" بكسر الهمزة فيهما وفيما بعدها وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أن قوله: { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } منسوخ بقوله: { { والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذرياتم } [الطور: 21] وهذا لا يصح عندي على ابن عباس، لأنه خبر لا ينسخ، ولأن شروط النسخ ليست هنا، اللهم إلا أن يتجوز في لفظة النسخ ليفهم سائلاً، وقال عكرمة: كان هذا الحكم في قوم إبراهيم وموسى، وأما هذه الأمة فلها سعي غيرها، والدليل حديث سعد بن عبادة قال: يا رسول الله هل لأمي إن تطوعت عنها؟ قال: نعم. وقال الربيع بن أنس: "الإنسان" الذي في هذه الآية هو الكافر وأما المؤمن فله ما سعى وما سعى له غيره. وسأل عبد الله بن طاهر بن الحسين والي خراسان الحسين بن الفضل عن هذه الآية مع قوله: { { والله يضاعف لمن يشاء } [البقرة: 261] فقال ليس له بالعدل إلا ما سعى، وله بفضل الله ما شاء الله، فقبل عبد الله رأس الحسين. وقال الجمهور: الآية محكمة. والتحرير عندي في هذه الآية أن ملاك المعنى هو في اللام من قوله: { للإنسان } فإذا حققت الشيء الذي هو حق الإنسان يقول فيه لي كذا لم يجده إلا سعيه، وما بعد من رحمة ثم شفاعة أو رعاية أب صالح أو ابن صالح أو تضعيف حسنات أو تغمد بفضل ورحمة دون هذا كله فليس هو للإنسان ولا يسعه أن يقول لي كذا إلا على تجوز وإلحاق بما هو له حقيقة. واحتج بهذه الآية من يرى أنه لا يعمل أحد عن أحد بعد موته ببدن ولا مال. وفرق بعض العلماء بين البدن والمال، وهي عندي كلها فضائل للعامل وحسنات تذكر للمعمول عنه. وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سعداً بالصدقة عن أمه، والسعي: التكسب.
وقوله: { يرى } فاعله حاضر والقيامة، أي يراه الله ومن شاهد الأمر، وفي عرض الأعمال على الجميع تشريف للمحسنين وتوبيخ للمسيئين، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم:
"من سمع بأخيه فيما يكره سمع الله به سامع خلقه يوم القيامة" . وفي قوله: { ثم يجزاه الجزاء الأوفى } وعيد للكافرين ووعد للمؤمنين. و: { المنتهى } يحتمل أن يريد به الحشر، والمصير بعد الموت فهو منتهى بالإضافة إلى الدنيا وإن كان بعده منتهى آخر وهو الجنة أو النار، ويحتمل أن يريد بـ { المنتهى }: الجنة أو النار، فهو منتهى على الإطلاق، لكن في الكلام حذف مضاف إلى عذاب ربك أو رحمته. وقال أبي بن كعب قال النبي عليه السلام في قوله تعالى: { وأن إلى ربك المنتهى } لا فكرة في الرب. وروى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا ذكر الرب فانتهوا" . وقال أبو هريرة: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً إلى أصحابه فقال: فيم أنتم؟ قالوا: نتفكر في الخالق، فقال: تفكروا في الخلق، لا تتفكروا في الخالق، فإنه لا تحيط به الفكرة" الحديث، وذكر الضحك والبكاء لأنهما صفتان تجمعان أصنافاً كثيرة من الناس، إذ الواحدة دليل السرور، والأخرى دليل الحزن في الدنيا والآخرة، فنبه تعالى على هاتين الخاصتين اللتين هما للإنسان وحده، وقال مجاهد المعنى: { أضحك } الله أهل الجنة { وأبكى } أهل النار. وحكى الثعلبي في هذا أقوالاً استعارية كمن قال { أضحك } الأرض بالنبات، { وأبكى } السماء بالمطر، ونحوه: و { أمات وأحيا }. وحكى الثعلبي قولاً إنه أحيا بالإيمان وأمات بالكفر. و { الزوجين } في هذه الآية يريد به المصطحبين من الناس من الرجل والمرأة وما ضارع من الحيوان، والخنثى متميز ولا بد لأحد الجهتين. والنطفة في اللغة: القطعة من الماء كانت يسيرة أو كثيرة. ويراد بها هاهنا ماء الذكران.
وقوله: { تمنى } يحتمل أن يكون من قولك: أمنى الرجل: إذا خرج منه المني، ويحتمل أن يكون من قولك منى الله الشيء: إذا خلقه، فكأنه قال: إذا تخلق وتقدر، و: { النشأة الأخرى } هي إعادة الأجسام إلى الحشر بعد البلي في التراب. وقرأ الناس: "النشْأة" بسكون الشين والهمز والقصر، وقرأ أبو عمرو والأعرج: "النشآة" ممدودة.
{ وأقنى } معناه: أكسب، يقال: قنبت المال، أي كسبته، ثم يعدى بعد ذلك بالهمزة، وقد يعدى بالتضعيف، ومنه قول الشاعر: [البسيط]

كم من غني أصاب الدهر ثروته ومن فقير يقنّى بعد إقلالِ

وعبر المفسرون عن { أقنى } بعبارات مختلفة. وقال بعضهم: { أقنى } معناه: أكسب ما يقتني، وقال مجاهد معناه: أغنى وأرضى. وقال حضرمي معناه: أغنى عن نفسه { وأقنى } أفقر عباده إليه. وقال الأخفش: { أقنى } أفقر، وهذه عبارات لا تقتضيها اللفظة، والوجه فيها بحسب اللغة أكسب ما يقتني. وقال ابن عباس: { أقنى } قنع. والقناعة خير قنية، والغنى عرض زائل، فلله در ابن عباس. و: { الشعرى } نجم في السماء، قال مجاهد وابن زيد: هو من زمر الجوزاء وهما شعريان، إحداهما: الغميصاء، والأخرى العبور، لأنها عبرت المجرة، وكانت خزاعة ممن يعبد هذه { الشعرى }، ومنهم أبو كبشة، ذكره الزهراوي واسمه عبد العزى، فلذلك خصت بالذكر، أي وهو رب هذا المعبود الذي لكم.
وعاد: هم قوم هود، واختلف في معنى وصفها بـ { الأولى }، فقال ابن زيد والجمهور: ذلك لأنها في وجه الدهر وقديمه، فهي أولى بالإضافة إلى الأمم المتأخرة، وقال الطبري: سميت أولى، لأن ثم عاداً أخيرة وهي قبيلة كانت بمكة مع العماليق وهم بنو لقيم بن هزال.
قال القاضي أبو محمد: والقول الأول أبين، لأن هذا الأخير لم يصح. وقال المبرد عاداً الأخيرة هي ثمود، والدليل قول زهير: [الطويل]

كأحمر عاد ثم ترضع فتفطم

ذكره الزهراوي، وقيل الأخيرة: الجبارون.
وقرأ ابن كثير وعاصم، وابن عامر وحمزة، والكسائي "عاد الأولى" منونة وبهمز. وقرأ نافع فيما روي عنه: "عادا الأولى" بإزالة التنوين والهمز. وهذا كقراءة من قرأ "أحد الله" وكقول الشاعر [أبو الأسود الدؤلي]: [المتقارب]

ولا ذاكر الله إلا قليلا

وقرأ قوم: { عاداً الأولى } والنطق بها "عادن الأولى". واجتمع سكون نون التنوين وسكون لام التعريف فكسرت النون للالتقاء، ولا فرق بينهما وبين قراءة الجمهور ولا ترك الهمز. وقرأ نافع أيضاً وأبو عمرو بالوصل والإدغام "عاد الولى" بإدغام النون في اللام ونقل حركة الهمزة إلى اللام. وعاب أبو عثمان المازني والمبرد هذه القراءة، وقال: إن هذا النقل لا يخرج اللام عن حد السكون وحذف ألف الوصل أن تبقى كما تقول العرب إذا نقلت الهمزة من قولهم الأحمر فإنهم يقولون الحمر جاء فكذلك يقال هاهنا "عاداً الولى"، قال أبو علي: والقراءة سائغة، وأيضاً فمن العرب من يقول: لحمر جاء فيحذف الألف مع النقل ويعتد بحركة اللام ولا يراها في حكم السكون، وقرأ نافع فيما روي عنه "عاداً الأولى" بهمز الواو، ووجه ذلك أنه لما لم يكن بين الواو والضمة حائل تخيل الضمة عليها فهمزها كما تهمز الواو المضمومة، وكذلك فعل من قرأ: "على سؤقه"، وكما قال الشاعر [جرير]: [الوافر]

لحَبّ المؤقدان إلي موسى

وهي لغة. وقرأ الجمهور: "وثموداً" بالنصب عطفاً على عاد. وقرأ عاصم وحمزة والحسن وعصمة "وثمود" بغير صرف، وهي في مصحف ابن مسعود بغير ألف بعد الدال.
وقوله: { فما أبقى } ظاهره: { فما أبقى } عليهم، وتأول ذلك بعضهم { فما أبقى } منهم عيناً تطرف، وقد قال ذلك الحجاج حين سمع قول من يقول إن ثقيفاً من ثمود فأنكر ذلك وقال: إن الله تعالى قال: { وثموداً فما أبقى }. وهؤلاء يقولون بقي منهم باقية.