التفاسير

< >
عرض

ٱلرَّحْمَـٰنُ
١
عَلَّمَ ٱلْقُرْآنَ
٢
خَلَقَ ٱلإِنسَانَ
٣
عَلَّمَهُ ٱلبَيَانَ
٤
ٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ
٥
وَٱلنَّجْمُ وَٱلشَّجَرُ يَسْجُدَانِ
٦
وَٱلسَّمَآءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ ٱلْمِيزَانَ
٧
أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي ٱلْمِيزَانِ
٨
وَأَقِيمُواْ ٱلْوَزْنَ بِٱلْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُواْ ٱلْمِيزَانَ
٩
وَٱلأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ
١٠
فِيهَا فَاكِهَةٌ وَٱلنَّخْلُ ذَاتُ ٱلأَكْمَامِ
١١
وَٱلْحَبُّ ذُو ٱلْعَصْفِ وَٱلرَّيْحَانُ
١٢
فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
١٣
-الرحمن

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

{ الرحمن } بناء مبالغة من الرحمة، وهو اسم اختص الله تعالى بالاتصاف به، وحكى ابن فورك عن قوم أنهم يجعلون { الرحمن } آية تامة، كأن التقدير: { الرحمن } ربنا، قاله الرماني أو أن التقدير: الله { الرحمن }. وقال الجمهور إنما الآية: { الرحمن علم القرآن } فهو جزء آية.
وقوله: { علم القرآن } تعديد نعمة أي هو من به وعلمه الناس، وخص حفاظه وفهمته بالفضل. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"خيركم من تعلم القرآن وعلمه" . ومن الدليل على أن القرآن غير مخلوق: أن الله تعالى ذكر { القرآن } في كتابه في أربعة وخمسين موضعاً ما فيها موضع صرح فيه بلفظ الخلق ولا أشار إليه، وذكر { الإنسان } على الثلث من ذلك في ثمانية عشر موضعاً، كلها نصت على خلقه، وقد اقترن ذكرهما في هذه السورة على هذا النحو، و: { الإنسان } اسم الجنس، حكاه الزهراوي وغيره. و: { البيان } النطق والفهم والإبانة عن ذلك بقول قاله ابن زيد والجمهور، وذلك هو الذي فضل الإنسان من سائر الحيوان، وقال قتادة: هو بيان الحلال والحرام والشرائع، وهذا جزء من { البيان } العام، وقال قتادة: { الإنسان } آدم. وقال ابن كيسان: { الإنسان }: محمد صلى الله عليه وسلم.
قال القاضي أبو محمد: وهذا التخصيص لا دليل عليه، وكل المعلومات داخلة في البيان الذي علمه الإنسان، فكأنه قال من ذلك البيان وفيه معتبر كون { الشمس والقمر بحسبان } فحذف هذا كله، ورفع { الشمسُ } بالابتداء، وهذا ابتداء تعديد نعم.
واختلف الناس في قوله: { بحسبان } فقال مكي والزهراوي عن قتادة: هو مصدر كالحساب في المعنى وكالغفران والطغيان في الوزن. وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى والضحاك: هو جمع حساب، كشهاب وشهبان، والمعنى أن هذين لهما في طلوعهما وغروبهما وقطعهما البروج وغير ذلك حسابات شتى، وهذا مذهب ابن عباس وأبي مالك وقتادة. وقال ابن زيد لولا الليل والنهار لم يدر أحد كيف يحسب شيئاً، يريد من مقادير الزمان. وقال مجاهد: "الحسبان" الفلك المستدير، شبه بحسبان الرحى، وهو العود المستدير الذي باستدارته تدور المطحنة.
وقوله: { والنجم والشجر يسجدان } قال ابن عباس والسدي وسفيان: { النجم }. النبات الذي لا ساق له، وسمي نجماً لأنه نجم، أي ظهر وطلع، وهو مناسب للشجر نسبة بينة. وقال مجاهد وقتادة والحسن: { النجم } اسم الجنس من نجوم السماء، والنسبة التي لها من السماء هي التي للشجر من الأرض، لأنها في ظاهرهما. وسمي { الشجر } من اشتجار غصونه وهو تداخلها.
واختلف الناس في هذا السجود، فقال مجاهد: ذلك في النجم بالغروب ونحوه، وفي الشجر بالظل واستدارته، وكذلك في النجم على القول الآخر. وقال مجاهد أيضاً ما معناه: أن السجود في هذا كله تجوز، وهو عبارة عن الخضوع والتذلل، ونحوه قول الشاعر [زيد الخيل]: [الطويل]

ترى الأكم فيها سجداً للحوافر

وقال: { يسجدان } وهما جمعان، لأنه راعى اللفظ، إذ هو مفرد اسم للنوع وهذا كقول الشاعر [عمير بن شييم القطامي]: [الوافر]

ألم يحزنك أن حبال قومي وقومك قد تباينتا انقطاعا

وقرأ الجمهور: "والسماءَ رفعها" بالنصب عطفاً على الجملة الصغيرة وهي { يسجدان } لأن هذه الجملة من فعل وفاعل وهذه كذلك. وقرأ أبو السمال: "والسماءُ" بالرفع عطفاً على الجملة الكبيرة وهي قوله: { والنجم والشجر يسجدان } لأن هذه الجملة من ابتداء وخبر، والأخرى كذلك.
وفي مصحف ابن مسعود: "وخفض الميزان". ومعنى: { وضع } أقر وأثبت، و { الميزان }: العدل فيما قال الطبري ومجاهد وأكثر الناس. وقال ابن عباس والحسن وقتادة: إنه الميزان المعروف.
قال القاضي أبو محمد: والميزان المعروف جزء من { الميزان } الذي يعبر به عن العدل. ويظهر عندي أن قوله: { وضع الميزان } يريد به العدل.
وقوله: { ألا تطغوا في الميزان } وقوله: { وأقيموا الوزن } وقوله: { ولا تخسروا الميزان } يريد به الميزان المعروف، وكل ما قيل محتمل سائغ.
وقوله: { ألا تطغوا } نهي عن التعمد الذي هو طغيان بالميزان. وأما ما لا يقدر البشر عليه من التحرير بالميزان فذلك موضوع عن الناس. "وأن لا" هو بتقدير لئلا، أو مفعول من أجله. و: { تطغوا } نصب، ويحتمل أن تكون "أن" مفسرة، فيكون { تطغوا } جزماً بالنهي، وفي مصحف ابن مسعود: "لا تطغوا في الميزان" بغير أن.
وقرأ جمهور الناس: "ولا تُخسروا" من أخسر، أي نقص وأفسد، وقال بلال بن أبي بردة "تَخسِروا" بفتح التاء وكسر السين من خسر، ويقال خسر وأخسر بمعنى: نقص وأفسد، كجبر وأجبر. وقرأ بلال أيضاً فيما حكى ابن جني: "تَخسَروا"، بفتح التاء والسين من خسِر: بكسر السين.
واختلف الناس في: "الأنام" فقال ابن عباس فيما روي عنه هم بنو آدم فقط. وقال الحسن بن أبي الحسن: هم الثقلان: الجن والإنس. وقال ابن عباس أيضاً وقتادة وابن زيد والشعبي: هم الحيوان كله. و { الأكمام } في { النخل } موجودة في الموضعين، فجملة فروع النخلة في أكمام من ليفها، وطلع النخل في كم من جفه. وقال قتادة: أكمام النخيل رقابها. والكم من النبات: كل ما التف شيء وستره, ومنه كمائم الزهر وبه شبه كم الثوب. { والحب ذو العصف } هو البر والشعير وما جرى مجراه من الحب الذي له سنبل وأوراق متشعبة على ساقه وهي العصيفة إذا يبست، ومنه قول علقمة بن عبدة: [البسيط]

تسقى مذانب قد مالت عصيفتها حدورها من أتيّ الماء مطموم

قال ابن عباس { العصف } التبن، وتقول العرب: خرجنا نتعصف، أي يستعجلون عصيفة الزرع.
وقرأ ابن عامر وأبو البرهسم: "والحبَّ" بالنصب عطفاً على { الأرض } "ذا العصف والريحانِ" إلا أن البرهسم خفض النون.
واختلفوا في { الريحان }، فقال ابن عباس ومجاهد والضحاك معناه: الرزق، ومنه قول الشاعر وهو النمر بن تولب: [المتقارب]

سلام الإله وريحانه وجنته وسماء درر

وقال الحسن: هو ريحانكم هذا. وقال ابن جبير: هو كل ما قام على ساق، وقال ابن زيد وقتادة: { الريحان } هو كل مشموم طيب الريح من النبات. وفي هذا النوع نعمة عظيمة. ففيه الأزهار والمندل والعقاقير وغير ذلك. وقال الفراء: { العصف } فيما يؤكل، و { الريحان } كل ما لا يؤكل.
وقرأ جمهور الناس: "والحبُّ" بالرفع "ذو العصف والريحان" وهذه قراءة في المعنى كالأولى في الإعراب حسنة الاتساق عطفاً على { فاكهة }. وقرأ حمزة والكسائي وابن محيصن: "والحبَّ" بالرفع "ذو العصف والريحانِ" بخفض "الريحانِ" عطفاً على { العصف }، كأن الحب هما له على أن { العصف } منه الورق. وكل ما يعصف باليد وبالريح فهو رزق البهائم، { والريحان } منه الحب فهو رزق الناس، "والريحان" على هذه القراءة: الرزق: لا يدخل فيه المشموم بتكلف.
{ والريحان } هو من ذوات الواو. قال أبو علي: إما أن يكون ريحان اسماً ووضع موضع المصدر، وإما أن يكون مصدراً على وزن فعلان، كالليان وما جرى مجراه أصله: روحان، أبدلت الواو ياء كما بدلوا الواو ياء في أشاوى وإما أن يكون مصدراً شاذاً في المعتل كما شذ كينونة وبينونة، فأصله ريوحان، قلبت الواو ياء، وأدغمت الياء في الياء، فجاء ريحان، فخفف كما قالوا ميت وميت وهين وهين.
والآلاء: النعم، واحدها إلى مثل معى وألى مثل قفا، حكى هذين أبو عبيدة، وألي مثل أمر وإلي مثل حصن، حكى هذين الزهراوي. والضمير في قوله: { ربكما } للجن والإنس، وساغ ذلك ولم يصرح لهما بذكر على أحد وجهين إما أنهما قد ذكرا في قوله: { للأنام } على ما تقدم من أن المراد به الثقلان، وإما على أن أمرهما مفسر في قوله:
{ { خلق الإنسان } [الرحمن: 14] { { وخلق الجان } [الرحمن: 15] فساغ تقديمهما في الضمير اتساعاً. وقال الطبري: يحتمل أن يقال هذا من باب ألقيا في جهنم ويا غلام اضربا عنقه. وقال منذر بن سعيد خوطب من يعقل لأن المخاطبة بالقرآن كله هي للإنس والجن، ويروى أن هذه الآية لما قرأها النبي صلى الله عليه وسلم سكت أصحابه فقال: "إن جواب الجن خير من سكوتكم، أي لما قرأتها على الجن قالوا: لا، بأيها نكذب يا ربنا" .