اختلف الناس في: "لا"، من قوله: { فلا أقسم بمواقع النجوم } فقال بعض النحويين: هي زائدة
والمعنى فأقسم، وزيادتها في بعض المواضع معروف كقوله تعالى: { { لئلا يعلم أهل الكتاب } }
[الحديد: 29] وغير ذلك، وقال سعيد بن جبير وبعض النحويين: هي نافية، كأنه قال: { فلا } صحة لما
يقوله الكفار، ثم ابتدأ { أقسم بمواقع النجوم }. وقال بعض المتأولين هي مؤكدة تعطي في القسم مبالغة
ما، وهي كاستفتاح كلام مشبه في القسم ألا في شائع الكلام القسم وغيره، ومن هذا قول الشاعر:
[الطويل]
"فلا وأبي أعدائها لا أخونها"
والمعنى: فوأبي اعدائها، ولهذا نظائر.
وقرأ الحسن والثقفي: "فلأقسم" بغير ألف، قال أبو الفتح، التقدير: فلأنا أقسم.
وقرأ الجمهور من القراء "بمواقع" على الجمع، وقرأ عمر بن الخطاب وابن عباس وابن مسعود وأهل
الكوفة وحمزة والكسائي: "بموقع" على الإفراد، وهو مراد به الجمع، ونظير هذا كثير، ومنه قوله تعالى:
{ { إن أنكر الأصوات لصوت الحمير } [لقمان: 19] جمع من حيث لكل حمار صوت مختص وأفرد من
حيث الأصوات كلها نوع.
واختلف الناس في: { النجوم } هنا، فقال ابن عباس وعكرمة ومجاهد وغيرهم: هي نجوم القرآن
التي نزلت على محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه روي أن القرآن نزل من عند الله في ليلة القدر إلى
السماء الدنيا، وقيل إلى البيت المعمور جملة واحدة، ثم نزل بعد ذلك على محمد نجوماً مقطعة في مدة
من عشرين سنة.
قال القاضي أبو محمد: ويؤيد هذا القول عود الضمير على القرآن في قوله: { إنه لقرآن كريم }،
وذلك أن ذكره لم يتقدم إلا على هذا التأويل، ومن لا يتأول بهذا التأويل يقول: إن الضمير يعود على القرآن
وإن لم يتقدم ذكر لشهرة الأمر ووضوح المعنى كقوله تعالى: { { حتى توارت بالحجاب } [ص: 32]، و { { كل
من عليها فان } [الرحمن: 26] وغير ذلك. وقال جمهور كثير من المفسرين: { النجوم } هنا: الكواكب
المعروفة. واختلف في موقعها، فقال مجاهد وأبو عبيدة هي: مواقعها عند غروبها وطلوعها، وقال قتادة:
مواقعها مواضعها من السماء، وقيل: مواقعها عند الانقضاض إثر العفاريت، وقال الحسن: مواقعها عند
الانكدار يوم القيامة.
وقوله تعالى: { وإنه لقسم } تأكيد للأمر وتنبيه من المقسم به، وليس هذا باعتراض بين الكلامين،
بل هذا معنى قصد التهمم به، وإنما الاعتراض قوله: { لو تعلمون } وقد قال قوم: إن قوله: { وإنه لقسم }
اعتراض، وإن { لو تعلمون } اعتراض في اعتراض، والتحرير هو الذي ذكرناه.
وقوله: { إنه لقرآن } هو الذي وقع القسم عليه، ووصفه بالكرم على معنى إثبات صفات المدح له
ودفع صفات الحطيطة عنه.
واختلف المتأولون في قوله تعالى: { في كتاب مكنون } بعد اتفاقهم على أن المكنون: المصون،
فقال ابن عباس ومجاهد: أراد الكتاب الذي في السماء. وقال عكرمة: أراد التوراة والإنجيل، كأنه قال:
إنه لكتاب كريم، ذكر كرمه وشرفه { في كتاب مكنون }.
قال القاضي أبو محمد: فمعنى الآية على هذا الاستشهاد بالكتب المنزلة، وهذا كقوله عز وجل:
{ { إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله } [التوبة: 36]. وقال بعض المتأولين: أراد
مصاحف المسلمين، وكانت يوم نزلت الآية لم تكن، فهي على هذا إخبار بغيب، وكذلك هو في كتاب
مصون إلى يوم القيامة، ويؤيد هذا لفظة المس، فإنها تشير إلى المصاحف أو هي استعارة في مس
الملائكة.
واختلف الناس في معنى قوله: { لا يمسه إلا المطهرون } وفي حكمه فقال من قال: إن الكتاب
المكنون هو الذي في السماء. { المطهرون } هنا الملائكة قال قتادة: فأما عندكم فيمسه المشرك المنجس
والمنافق قال الطبري: { المطهرون }: الملائكة والأنبياء ومن لا ذنب له، وليس في الآية على هذا القول
حكم مس المصحف لسائر بني آدم، ومن قال بأنها مصاحف المسلمين، قال إن قوله: { لا يمسه } إخبار
مضمنه النهي، وضمة السين على هذا ضمة إعراب، وقال بعض هذه الفرقة: بل الكلام نهي، وضمة
السين ضمة بناء، قال جميعهم: فلا يمس المصحف من جميع بني آدم إلا الطاهر من الكفر والجنابة
والحدث الأصغر. قال مالك: لا يحمله غير طاهر بعلاقته ولا على وسادة. وفي كتاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم لعمرو بن حزم: "ولا يمس المصحف إلا الطاهر" ،وقد رخص أبو حنيفة وقوم بأن يمسه الجنب
والحائض على حائل غلاف ونحوه، ورخص بعض العلماء في مسه بالحدث الأصغر، وفي قراءته عن ظهر
قلب، منهم ابن عباس وعامر الشعبي، ولا سيما للمعلم والصبيان، وقد رخص بعضهم للجنب في قراءته،
وهذا الترخيص كله مبني على القول الذي ذكرناه من أن المطهرين هم الملائكة أو على مراعاة لفظ اللمس
فقد قال سليمان: لا أمس المصحف ولكن أقرأ القرآن.
وقرأ جمهور الناس: "المطَهّرون" بفتح الطاء والهاء المشددة. وقرأ نافع وابو عمرو بخلاف عنهما
"المطْهَرون" بسكون الطاء وفتح الهاء خفيفة، وهي قراءة عيسى الثقفي. وقرأ سلمان الفارسي:
"المطَهِّرون" بفتح الطاء خفيفة وكسر الهاء وشدها على معنى الذين يطهرون أنفسهم، ورويت عنه بشد
الطاء والهاء. وقرأ الحسن وعبد الله بن عون وسلمان الفارسي بخلاف عنه: المطّهرون بشد الطاء بمعنى
المتطهرون.
قال القاضي أبو محمد: والقول بأن { لا يمسه } نهي قول فيه ضعف وذلك أنه إذا كان خبراً فهو في
موضع الصفة، وقوله بعد ذلك: { تنزيل }: صفة أيضاً، فإذا جعلناه نهياً جاء معنى أجنبياً معترضاً بين
الصفات، وذلك لا يحسن في رصف الكلام فتدبره. وفي حرف ابن مسعود: "ما يمسه" وهذا يقوي ما
رجحته من الخبر الذي معناه: حقه وقدره أن لا يمسه إلا طاهر.
وقوله عز وجل: { أفبهذا الحديث أنتم مدهنون } مخاطبة للكفار، و { الحديث } المشار إليه هو
القرآن المتضمن البعث، وإن الله تعالى خالق الكل وإن ابن آدم مصرف بقدره وقضائه وغير ذلك
و: { مدهنون } معناه: يلاين بعضكم بعضاً ويتبعه في الكفر، مأخوذ من الدهن للينه وإملاسه. وقال أبو
قيس بن الأسلت: الحزم والقوة خير من الإدهان والفهة والهاع وقال ابن عباس: هو المهاودة فيما لا يحل.
والمداراة هي المهاودة فيما يحل، وقال ابن عباس: { مدهنون } مكذبون.
وقوله عز وجل: { وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون } أجمع المفسرون على أن الآية توبيخ للقائلين في
المطر الذي ينزله الله للعباد هذا بنوء كذا وكذا وهذا بـ "عثانين" الأسد، وهذا بنوء الجوزاء وغير ذلك. والمعنى:
وتجعلون شكر رزقكم، كما تقول لرجل: جعلت يا فلان إحساني إليك أن تشتمني المعنى: جعلت شكر
إحساني. وحكى الهيثم بن عدي أن من لغة أزد شنوءة: ما رزق فلان؟ بمعنى ما شكره. وكان علي بن أبي
طالب رضي الله عنه يقرؤها: "وتجعلون شكركم إنكم تكذبون"، وكذلك قرأ ابن عباس، ورويت عن النبي
صلى الله عليه وسلم، إلا أن ابن عباس ضم التاء وفتح الكاف، وعلي رضي الله عنه: فتح التاء وسكن
الكاف وخفف الذال، ومن هذا المعنى قول الشاعر: [السريع]
وكان شكر القوم عند المنى كي الصحيحات وفقء الأعين
وقد أخبر الله تعالى أنه أنزل من السماء ماء مباركاً فأنبت به جنات وحب الحصيد والنخل باسقات لها
طلع نضيد رزقاً للعباد فهذا معنى قوله: { إنكم تكذبون }، أي بهذا الخبر.
وقرأ عاصم في رواية المفضل عنه: "تَكْذبون" بفتح التاء وسكون الكاف وتخفيف الدال كقراءة
علي بن أبي طالب. وكذبهم في مقالتهم بين، لأنهم يقولون هذا بنوء كذا وذلك كذب منهم وتخرص،
وذكر الطبري " أن النبي عليه السلام سمع رجلاً يقول: مطرنا ببعض عثانين الأسد، فقال له: كذبت، بل
هو رزق الله" .
قال القاضي أبو محمد: والنهي عنه المكروه هو أن يعتقد أن للطالع من النجوم تأثيراً في المطر، وأما
مراعاة بعض الطوالع على مقتضى العادة، فقد قال عمر للعباس وهما في الاستسقاء: يا عباس، يا عم النبي
عليه السلام كم بقي من نوء الثريا، فقال العباس: العلماء يقولون إنها تتعرض في الأفق بعد سقوطها سبعاً.
قال ابن المسيب: فما مضت سبع حتى مطروا.
وقوله تعالى: { فلولا إذا بلغت الحلقوم } توقيف على موضع عجز يقتضي النظر فيه أن الله تعالى
ملك كل شيء، والضمير في: { بلغت } لنفس الإنسان والمعنى يقتضيها وإن لم يتقدم لها ذكر.
و: { الحلقوم } مجرى الطعام، وهذه الحال هي نزاع المرء للموت.
وقوله: { وأنتم } إشارة إلى جميع البشر، وهذا من الاقتضاب كقوله تعالى: { { ولا تقتلوا أنفسكم } }
[النساء: 29].
وقرأ عيسى بن عمر: "حينئِذ" بكسر النون. و: { تنظرون } معناه إلى المنازع في الموت.
وقوله تعالى: { ونحن أقرب إليه منكم } يحتمل أن يريد ملائكته ورسله، ويحتمل أن يريد بقدرتنا
وغلبتنا، فعلى الاحتمال الأول يجيء قوله: { ولكن لا تبصرون } من البصر بالعين، وعلى التأويل الثاني
يجيء من البصر بالقلب. وقال عامر بن عبد قيس: ما نظلت إلى شيء إلا رأيت الله أقرب إليه مني، ثم عاد
التوقيف والتقرير ثانية بلفظ التحضيض، والمدين: المملوك هذا أصح ما يقال في معنى اللفظة هنا، ومن
عبر عنها بمجازي أو بمحاسب فذلك هنا قلق والمملوك يقلب كيف يشاء المالك، ومن هذا الملك قول
الأخطل: [الطويل]
ربت وربا في حجرها ابن مدينة تراه على مسحاته يتركّلُ
أراد ابن أمة مملوكة وهو عبد يخدم الكرم، وقد قيل في معنى هذا البيت: أراد أكاراً حضرياً لأن
الأعراب في البادية لا يعرفون الفلاحة وعمل الكرم، فنسبه إلى المدينة لما كان من أهلها، فبمعنى الآية فلولا
ترجعون النفس البالغة الحلقوم إن كنتم غير مملوكين مقهورين ودين الملك حكمه وسلطانه، وقد نحا إلى
هذا المعنى الفراء، وذكره مستوعباً النقاش.
وقوله: { ترجعونها } سدت مسد الأجوبة والبيانات التي يقتضيها التحضيضات، و { إذا } من قوله:
{ فلولا إذا } و { إن } المتكررة وحمل بعض القول بعضاً إيجازاً واقتضاباً.