التفاسير

< >
عرض

يَوْمَ تَرَى ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَىٰ نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ ٱلْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ
١٢
يَوْمَ يَقُولُ ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُواْ ٱنظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ٱرْجِعُواْ وَرَآءَكُمْ فَٱلْتَمِسُواْ نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ ٱلرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ ٱلْعَذَابُ
١٣
يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ وَلَـٰكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَٱرْتَبْتُمْ وَغرَّتْكُمُ ٱلأَمَانِيُّ حَتَّىٰ جَآءَ أَمْرُ ٱللَّهِ وَغَرَّكُم بِٱللَّهِ ٱلْغَرُورُ
١٤
-الحديد

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

العامل في: { يوم } قوله { { وله أجر كريم } [الحديد: 11]. والرؤية في هذه الآية رؤية عين. والنور: قال الضحاك بن مزاحم: هي استعارة، عبارة عن الهدى والرضوان الذي هم فيه. وقال الجمهور: بل هو نور حقيقة، وروي في هذا عن ابن عباس وغيره آثار مضمنها: أن كل مؤمن ومظهر للإيمان يعطى يوم القيامة نوراً فيطفأ نور كل منافق ويبقى نور المؤمنين. حتى أن منهم من نوره يضيء كما بين مكة وصنعاء، رفعه قتادة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم من نوره كالنخلة السحوق. ومنهم من نوره يضيء ما بين قرب من قدميه، قال ابن مسعود: ومنهم من يهم بالانطفاء مرة ويتبين مرة على قدر المنازل في الطاعة والمعصية. وخص تعالى بين الأيدي بالذكر لأنه موضع حاجة الإنسان إلى النور.
واختلف الناس في قوله: { وبأيمانهم } فقال بعض المتأولين المعنى: وعن أيمانهم، فكأنه خص ذكر جهة اليمين تشريفاً، وناب ذلك مناب أن يقول: وفي جميع جهاتهم، وقال آخرون منهم، المعنى: { وبأيمانهم } كتبهم بالرحمة. وقال جمهور المفسرين، المعنى: يسعى نورهم بين أيديهم، يريد الضوء المنبسط من أصل النور. { وبأيمانهم } أصله، والشيء الذي هو متقد فيه.
قال القاضي أبو محمد: فضمن هذا القول أنهم يحملون الأنوار، وكونهم غير حاملين أكرم، ألا ترى أن فضيلة عباد بن بشر وأسيد بن حضير إنما كانت بنور لا يحملانه. هذا في الدنيا فكيف في الآخرة، ومن هذه الآية انتزع حمل المعتق للشمعة.
وقرأ الناس: "بأيمانهم" جمع يمين. وقرأ سهل بن سعد وأبو حيوة: "بإيمانهم" بكسر الألف، وهو معطوف على قوله: { بين أيديهم } كأنه قال: كائناً بين أيديهم، وكائناً بسبب إيمانهم.
وقوله تعالى: { بشراكم } معناه، يقال لهم: بشراكم جنات، أي دخول جنات، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه.
وقوله تعالى: { خالدين فيها } إلى آخر الآية، مخاطبة لمحمد صلى الله عليه وسلم وقرأ ابن مسعود: "ذلك الفوز العظيم" بغير هو.
وقوله تعالى: { يوم يقول المنافقون والمنافقات } قال بعض النحاة: { يوم } بدل من الأول وقال آخرون منهم العامل فيه فعل مضمر تقديره: اذكر.
قال القاضي أبو محمد: ويظهر لي أن العامل فيه قوله تعالى: { ذلك هو الفوز العظيم } ويجيء معنى { الفوز } أفخم، كأنه يقول: إن المؤمنين يفوزون بالرحمة يوم يعتري المنافقين كذا وكذا، لأن ظهور المرء يوم خمول عدوه ومضاده أبدع وأفخم، وقول المنافقين هذه المقالة الممكنة هو عند انطفاء أنوارهم كما ذكرنا قبل.
وقولهم: { انظرونا } معناه: انتظرونا، ومنه قول الحطيئة: [البسيط]

وقد نظرتكمُ أبناء عائشة للخمس طال بها حبسي وتبساسي

وقرأ حمزة وحده وابن وثاب وطلحة والأعمش: "أنظِرونا" بقطع الألف وكسر الظاء على وزن أكرم. ومنه قول عمرو بن كلثوم: [الوافر]

أبا هند فلا تعجل علينا وأنظرنا نخبّرك اليقينا

ومعناه: أخرونا، ومنه النظرة إلى الميسرة، وقول النبي عليه السلام: "من أنظر معسراً" الحديث، ومعنى قولهم: أخرونا، أخروا مشيكم لنا حتى نلحق فـ { نقتبس من نوركم }، واقتبس الرجل واستقبس أخذ من نور غيره قبساً. وقوله تعالى: { قيل ارجعوا وراءكم } يحتمل أن يكون من قول المؤمنين، ويحتمل أن يكون من قول الملائكة.
وقوله: { وراءكم } حكى المهدوي وغيره من المفسرين أنه لا موضع له من الإعراب، وأنه كما لو قال ارجعوا ارجعوا، وأنه على نحو قول أبي الأسود الدؤلي للسائل: وراءك أوسع لك.
قال القاضي أبو محمد: ولست أعرف مانعاً يمنع من أن يكون العامل فيه { ارجعوا }، والقول لهم: { فالتمسوا نوراً } هو على معنى التوبيخ لهم، أي أنكم لا تجدونه.
ثم أعلم عز وجل أنه يضرب بينهم في هذه الحال { بسور } حاجز، فيبقى المنافقون في ظلمة ويأخذهم العذاب من الله، وحكي عن ابن زيد أن هذا السور هو الأعراف المذكورفي سورة "الأعراف" وقد حكاه المهدوي، وقيل هو حاجز آخر غير ذلك، وقال عبد الله بن عمر وكعب الأحبار وعبادة بن الصامت وابن عباس: هو الجدار الشرقي في مسجد بيت المقدس. وقال زياد بن أبي سوادة: قام عبادة على السور الشرقي من بيت المقدس فبكى وقال: من هاهنا أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى جهنم.
قال القاضي أبو محمد: وفيه باب يسمى باب الرحمة، سماه في تفسير هذه الآية عبادة وكعب. وفي الشرق من الجدار المذكور واد يقال له: وادي جهنم، سماه في تفسير هذه الآية عبد الله بن عمر وابن عباس، وهذا القول في السور بعيد، والله أعلم وقال قتادة وابن زيد، { الرحمة }: الجنة. و { العذاب }: جهنم.
والسور في اللغة الحجي الذي للمدن وهو مذكور. والسور أيضاً جمع سورة، وهي القطعة من البناء ينضاف بعضها إلى بعض حتى يتم الجدار، فهذا اسم جمع يسوغ تذكيره وتأنيثه، وهذا الجمع هو الذي أراد جرير في قوله: [الكامل]

لما أتى خبر الزبير تضعضعت سور المدينة والجبال الخشع

وذلك أن المدينة لم يكن لها قط حجي، وأيضاً فإن وصفه أن جميع ما في المدينة من بناء تواضع أبلغ، ومن رأى أنه قصد قصد السور الذي هو الحجي، قال: إن ذلك إذا تواضع فغيره من المباني أحرى بالتواضع.
قال القاضي أبو محمد: فإذا كان السور في البيت محتملاً للوجهين فليس هو في قوة مر الرياح وصدر القناة وغير ذلك مما هو مذكر محض استفاد التأنيث مما أضيف إليه.
وقوله تعالى: { باطنه فيه الرحمة } أي جهة المؤمنين، { وظاهره } جهة المنافقين، والظاهر هنا البادي، ومنه قول: من ظاهر مدينة كذا، وقوله تعالى: { ينادونهم } معناه: ينادي المنافقون المؤمنين { ألم نكن معكم } في الدنيا؟ فيرد المؤمنون عليهم: { بلى } كنتم معنا، ولكنكم عرضتم أنفسكم للفتنة، وهو حب العاجل والقتال عليه، قال مجاهد: { فتنتم أنفسكم } بالنفاق. { وتربصتم } معناه هنا: بأمانكم { فأبطأتم } به حتى متم. وقال قتادة معناه: تربصتم بنا وبمحمد عليه السلام الدوائر وشككتم في أمر الله. والارتياب: التشكك. و: { الأماني } التي غرتهم هي قولهم: سيهلك محمد هذا العام ستهزمه قريش، ستأخذه الأحزاب، إلى غير ذلك من أمانيهم، وطول الأمل غرار لكل أحد، و { أمر الله } الذي { جاء } هو الفتح وظهور الإسلام، وقيل هو موت المنافقين وموافاتهم على هذه الحال الموجبة للعذاب و: { الغرور } الشيطان بإجماع من المتأولين.
وقرأ سماك بن حرب بضم الغين، وأبو حيوة. وينبغي لكل مؤمن أن يعتبر هذه الآية في نفسه وتسويفه في توبته.