التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلْمُصَّدِّقِينَ وَٱلْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُواْ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ
١٨
وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصِّدِّيقُونَ وَٱلشُّهَدَآءُ عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلْجَحِيمِ
١٩
-الحديد

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

قرأ جمهور القراء: "إن المصَّدقين" بشد الصاد المفتوحة على معنى المتصدقين، وفي مصحف أبيّ بن كعب: "إن المتصدقين"، فهذا يؤيد هذه القراءة، وأيضاً فيجيء قوله تعالى: { وأقرضوا الله قرضاً حسناً } ملائماً في الكلام للصدقة. وقرأ ابن كثير وأبو بكر عن عاصم "إن المصَدقين" بتخفيف الصاد على معنى: إن الذين صدقوا رسول الله فيما بلغ عن الله وآمنوا به، ويؤيد هذه القراءة أنها أكثر تناولاً، لأن كثيراً ممن لا يتصدق يعمه اللفظ في التصديق. ثم إن تقييدهم بقوله: { وأقرضوا } يرد مقصد القراءتين قريباً بعضه من بعض.
وقوله: { أقرضوا } معطوف على المعنى، لأن معنى قوله: { إن المصدقين والمصدقات } إن الذين تصدقوا، ولا يصح هنا عطف لفظي، قاله أبو علي في الحجة. وقد تقدم معنى القرض، ومعنى المضاعفة التي وعد الله بها هذه الأمة. وقد تقدم معنى وصف الأجر بالكريم، كل ذلك في هذه السورة.
قال القاضي أبو محمد: ويؤيد عندي قراءة من قرأ: "إن المصّدقين" بشد الصاد. إن الله تعالى حض في هذه الآية على الإنفاق وفي سبيل الله تعالى. ثم ذكر في هذه أهل الصدقة ووعدهم، ثم ذكر أهل الإيمان والتصديق في قوله: { والذين آمنوا بالله ورسله } وعلى قراءة من قرأ: "إن المصَدقين" بتخفيف الصاد فذكر المؤمنين مكرر في اللفظ، وكون الأصناف منفردة بأحكامها من الوعد أبين.
والإيمان بمحمد يقتضي الإيمان بجميع الرسل، فلذلك قال: { ورسله }. و { الصديقون } بناء مبالغة من الصدق أو من التصديق على ما ذكر الزجاج، وفعيل لا يكون فيما أحفظ إلا من فعل ثلاثي، وقد أشار بعض الناس إلى أنه يجيء من غير الثلاثي. وقال: مسيك من أمسك، وأقول إنه يقال: مسك الرجل وقد حكى مسك الشيء، وفي هذا نظر.
وقوله تعالى: { والشهداء عند ربهم } اختلف الناس في تأويل ذلك، فقال ابن مسعود ومجاهد وجماعة: { والشهداء } معطوف على قوله: { الصديقون } والكلام متصل. ثم اختلفت هذه الفرقة في معنى هذا الاتصال، فقال بعضها: وصف الله المؤمنين بأنهم صديقون وشهداء، فكل مؤمن شهيد، قاله مجاهد. وروى البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"مؤمنو أمتي شهداء" ،وتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية، وإنما خص رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الشهداء السبعة تشريفاً، ولأنهم في أعلى رتب الشهادة، ألا ترى أن المقتول في سبيل الله مخصوص أيضاً من السبعة بتشريف ينفرد به. وقال بعضها: وصف الله تعالى المؤمنين بأنهم صديقون وشهداء لكن من معنى الشاهد لا من معنى الشهيد، وذلك نحو قوله تعالى: { { لتكونوا شهداء على الناس } [البقرة: 143] فكأنه قال في هذه الآية: هم أهل الصدق والشهادة على الأمم عند ربهم، وقال ابن عباس ومسروق والضحاك: الكلام تام في قوله: { الصديقون }. وقوله: { والشهداء } ابتداء مستأنف.
ثم اختلفت هذه الفرقة في معنى هذا الاستئناف، فقال بعضها معنى الآية: { والشهداء } بأنهم صديقون حاضرون { عند ربهم }. وعنى بـ { الشهداء }: الأنبياء عليهم السلام، فكأن الأنبياء يشهدون للمؤمنين بأنهم صديقون، وهذا يفسره قوله تعالى:
{ { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً } [النساء: 41]. وقال بعضها قوله: { والشهيد } ابتداء يريد به الشهداء في سبيل الله، واستأنف الخبر عنهم بأنهم: { عند ربهم لهم أجرهم ونورهم } فكأنه جعلهم صنفاً مذكوراً وحده، وفي الحديث: "إن أهل الجنة العليا ليراهم من دونهم كما ترون الكوكب الدري، وإن أبا بكر وعمر منهم وأنعما" .
وقوله تعالى: { لهم أجرهم ونورهم } خبر عن الشهداء فقط على الأخير من الأقوال، وهو خبر عن المؤمنين المذكورين في أول الآية على الأقوال الثلاثة.
وقوله تعالى: { ونورهم } قال جمهور المفسرين: هو حقيقة حسبما روي مما تقدم ذكره في هذه السورة. وقال مجاهد وغيره: هو مجاز عبارة عن الهدى والكرامة والبشرى التي حصلوا فيها.
ولما فرع ذكر المؤمنين وأهل الكرامة، عقب ذكر الكفرة المكذبين ليبين الفرق، فذكرهم تعالى بأنهم { أصحاب الجحيم } وسكانه.