التفاسير

< >
عرض

وَلاَ تَطْرُدِ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ ٱلظَّالِمِينَ
٥٢
وَكَذٰلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِّيَقُولوۤاْ أَهَـٰؤُلاۤءِ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَآ أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِأَعْلَمَ بِٱلشَّٰكِرِينَ
٥٣
-الأنعام

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

المراد بـ { الذين } ضعفة المؤمنين في ذلك الوقت في أمور الدنيا بلال وعمار وابن أم عبد ومرثد الغنوي وخباب وصهيب وصبيح وذو الشمالين والمقداد ونحوهم وسبب الآية أن الكفار قال بعضهم للنبي صلى الله عليه وسلم: نحن لشرفنا وأقدارنا لا يمكننا أن نختلط بهؤلاء، فلو طردتهم لاتبعناك وجالسناك، ورد في ذلك حديث عن ابن مسعود، وقيل: إنما قاله هذه المقالة أبو طالب على جهة النصح للنبي صلى الله عليه وسلم قال له: لو أزلت هؤلاء لاتبعك أشراف قومك وروي أن ملأ قريش اجتمعوا إلى أبي طالب في ذلك، وظاهر الأمر أنهم أرادوا بذلك الخديعة، فصوب هذا الرأي من أبي طالب عمر بن الخطاب وغيره من المؤمنين فنزلت الآية، وقال ابن عباس: إن بعض الكفار إنما طلب أن يؤخر هؤلاء عن الصف الأول في الصلاة، ويكونون هم موضعهم، ويؤمنون إذا طرد هؤلاء من الصف الأول فنزلت الآية، أسند الطبري إلى خباب بن الأرت أن الأقرع بن حابس ومن شابهه من أشراف العرب قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم اجعل لنا منك مجلساً، لا يخالطنا فيه العبيد والحلفاء، واكتب لنا كتاباً، فهمّ النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فنزلت هذه الآية.
قال القاضي أبو محمد: وهذا تأويل بعيد في نزول الآية، لأن الآية مكية وهؤلاء الأشراف لم يفدوا إلا في المدينة، وقد يمكن أن يقع هذا القول منهم ولكنه إن كان وقع فبعد نزول الآية بمدة اللهم إلا تكون الآية مدنية، قال خباب رضي الله عنه: ثم نزلت
{ { وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم } } [الأنعام:54] الآية فكنا نأتي فيقول لنا: سلام عليكم ونقعد معه، فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا، فأنزل الله { { واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم } [الكهف:28] الآية فكان يقعد معنا، فإذا بلغ الوقت الذي يقوم فيه قمنا وتركناه حتى يقوم و { يدعون ربهم بالغداة والعشي } قال الحسن بن أبي الحسن المراد به صلاة مكة التي كانت مرتين في اليوم بكرة وعشياً وقيل: بل قوله: { بالغداة والعشي } عبارة عن استمرار الفعل وأن الزمن معمور به، كما تقول: الحمد لله بكرة وأصيلا، فإنما تريد الحمد لله في كل وقت والمراد على هذا التأويل قيل، هو الصلوات الخمس، قاله بن عباس وإبراهيم، وقيل الدعاء وذكر الله واللفظة على وجهها وقال بعض القصاص: إنه الاجتماع إليهم غدوة وعشياً فأنكر ذلك ابن المسيب وعبد الرحمن بن أبي عمرة وغيرهما وقالوا: إنما الآية في الصلوات في الجماعة، وقيل: قراءة القرآن وتعلمه قاله أبو جعفر ذكره الطبري، وقيل العبادة قاله الضحاك: وقرأ أبو عبد الرحمن ومالك بن دينار والحسن ونصر بن عاصم وابن عامر "بالغدوة والعشي"، وروي عن أبي عبد الرحمن "بالغدو" بغير هاء، وقرأ ابن أبي عبلة "بالغدوات والعشيات" بألف فيهما على الجمع، وغدوة: معرفة لأنها جعلت علماً لوقت من ذلك اليوم بعينه وجاز إدخال الألف واللام عليها كما حكى أبو زيد لقيته فينة غير مصروف والفينة بعد الفينة فألحقوا لام المعرفة ما استعمل معرفة، وحملاً على ما حكاه الخليل أنه يقال: لقيته اليوم غدوة منوناً، ولأن فيها مع تعيين اليوم، إمكان تقدير معنى الشياع، ذكره أبو علي الفارسي و { وجهه } في هذا الموضع معناه جهة التزلق إليه كما تقول خرج فلان في وجه كذا أي في مقصد وجهة { وما عليك من حسابهم من شيء } معناه لم تكلف شيئاً غير دعائهم فتقدم أنت وتؤخر ويظهر يكون الضمير في { حسابهم } و { عليهم } للكفار الذين أرادوا طرد المؤمنين، أي ما عليك منهم آمنوا ولا كفروا فتطرد هؤلاء رعياً لذلك، والضمير في "تطردهم" عائد على الضعفة من المؤمنين، ويؤيد هذا التأويل أن ما بعد الفاء أبداً سبب ما قبلها، وذلك لا يبين إذا كانت الضمائر كلها للمؤمنين، وحكى الطبري أن الحساب هنا إنما هو في رزق الدنيا، أي لا ترزقهم ولا يرزقونك.
قال القاضي أبو محمد: فعلى هذا تجيء الضمائر كلها للمؤمنين، وذكره المهدوي، وذكر عن الحسن أنه من حساب عملهم كما قال الجمهور، و { ما عليك } وقوله: { فتكون } جواب النهي في قوله: { ما عليك } { فتطردهم } جواب النهي في قوله: { ولا تطرد } و { من الظالمين } ، معناه يضعون الشيء غير مواضعه وقوله تعالى: { وكذلك فتنا بعضهم ببعض } الآية { فتنا } معناه في هذه الآية: ابتلينا، فابتلاء المؤمنين بالمشركين هو ما يلقون منهم من الأذى، وابتلاء المشركين بالمؤمنين هو أن يرى الرجل الشريف من المشركين قوماً لا شرف لهم قد عظمهم هذا الدين وجعل لهم عند نبيه قدراً ومنزلة، والإشارة بذلك إلى ما ذكر من طلبهم أن يطرد الضعفة و { ليقولوا } معناه ليصبر بحكم القدر أمرهم إلى أن يقولوا، فهي لام الصيرورة كما قال تعالى:
{ { فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً } [القصص:8] أي ليصير مثاله أن يكون لهم عدواً وقول المشركين على هذا التأويل { أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا } هو على جهة الاستخفاف والهزء ويحتمل الكلام معنى آخر وهو أن تكون اللام في { ليقولوا } على بابها في لام كي وتكون المقالة منهم استفهاماً لأنفسهم ومباحثة لها وتكون سبب إيمان من سبق إيمانه منهم، فمعنى الآية على هذا التأويل وكذلك ابتلينا أشراف الكفار بضعفاء المؤمنين ليتعجبوا في نفوسهم من ذلك ويكون سبب نظر لمن هدي.
قال القاضي أبو محمد: والتأويل الأول أسبق والثاني يتخرج، ومنّ على كلا التأويلين إنما هي على معتقد المؤمنين، أي هؤلاء منّ الله عليهم بزعمهم أن دينهم منة، وقوله { أليس الله بأعلم بالشاكرين } أي يا أيها المستخفون أو المتعجبون على التأويل الآخر ليس الأمر أمر استخفاف ولا تعجب، فالله أعلم بمن يشكر نعمته والمواضع التي ينبغي أن يوضع فيها فجاء إعلامهم بذلك في لفظ التقدير إذ ذلك بين لا تمكنهم فيه معاندة.