التفاسير

< >
عرض

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ ٱللَّهِ لَوَّوْاْ رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ
٥
سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْفَـٰسِقِينَ
٦
هُمُ ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُواْ عَلَىٰ مَنْ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ حَتَّىٰ يَنفَضُّواْ وَلِلَّهِ خَزَآئِنُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَلَـٰكِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ
٧
يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى ٱلْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ ٱلأَعَزُّ مِنْهَا ٱلأَذَلَّ وَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَـٰكِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ
٨
-المنافقون

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

كان أمر عبد الله بن أبي ابن سلول، أنه خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بني المصطلق، فبلغ الناس إلى ماء سبق إليه المهاجرون وكأنهم غلبوا الأنصار عليه بعض الغلبة، فقال عبد الله بن أبي لأصحابه: قد كنت قلت لكم في هؤلاء الجلابيب ما قلت فلم تسمعوا مني، وكان المنافقون ومن لا يتحرى يسمي المهاجرين الجلابيب ومنه قول حسان بن ثابت: [البسيط]

أرى الجلابيب قد عزوا وقد كثروا وابن القريعة أمسى بيضة البلد

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أتحض علينا يا حسان" ثم إن الجهحاه الغفاري كان أجيراً لعمر بن الخطاب ورد الماء بفرس لعمر، فازدحم هو وسنان بن وبرة الجهني وكان حليفاً للأوس فكسع الجهجاه سناناً، فغضب سنان فتأثروا، ودعا الجهجاه: يا للمهاجرين، ودعا سنان: يا للأنصار، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ما بال دعوى الجاهلية" ،فلما أخبر بالقصة، قال: "دعوها فإنها منتنة" . واجتمع في الأمر عبد الله بن أبيّ في قوم من المنافقين، وكان معهم زيد بن أرقم فتى صغيراً لم يتحفظ منه، فقال عبد الله بن أبي: أوَقَد تداعوا علينا فوالله ما مثلنا ومثلهم إلا كما قال الأول: سمن كلبك يأكلك، وقال بهم: { لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل }، وقال لهم: إنما يقيم هؤلاء المهاجرون مع محمد بسبب معونتكم وإنفاقكم عليهم، ولو قطعتم ذلك عنهم لفروا، فذهب زيد بن أرقم إلى عمه وكان في حجره وأخبره، فأتى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا زيد، غضبت على الرجل أو لعلك وهمت" ،فأقسم زيد ما كان شيء من ذلك، ولقد سمع من عبد الله بن أبيّ ما حكى، فعاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي عند رجال من الأنصار، فبلغه ذلك، فجاء وحلف ما قال، وكذّب زيداً، وحلف معه قوم من المنافقين، فكذب رسول الله صلى الله عليه وسلم زيداً، وصدق عبد الله بن أبي، فبقي زيد في منزله لا يتصرف حياء من الناس، فنزلت هذه السورة عند ذلك، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في زيد وقال له: "لقد صدقك الله يا زيد ووفت أذنك" ،فخزي عند ذلك عبد الله بن أبي ابن سلول، ومقته الناس، ولامه المؤمنون من قومه وقال بعضهم: امض إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، واعترف بذنبك يستغفر لك، فلوى رأسه إنكاراً لهذا الرأي، وقال لهم: لقد أشرتم عليّ بأن أعطي زكاة من مالي ففعلت، ولم يبق لكم إلا أن تأمروني بالسجود لمحمد.
قال القاضي أبو محمد: فهذا هو قصص هذه السورة موجزاً، و "تعال" نداء يقتضي لفظه أنه دعاء الأعلى للأسفل، ثم استعمل لكل داع لما فيه من حسن الأدب. وقرأ نافع والمفضل عن عاصم "لووا" بتخفيف الواو، وهي قراءة الحسن بخلاف ومجاهد، وأهل المدينة، وقرأ الباقون وأبو جعفر والأعمش: "لوّوا" بشد الواو على تضعيف المبالغة، وهي قراءة طلحة وعيسى وأبي رجاء وزر والأعرج، وقرأ بعض القراء هنا: "يصِدون" بكسر الصاد، والجمهور بضمها، وقوله تعالى: { سواء عليهم } الآية، روي أنه لما نزلت:
{ { إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر لهم } [التوبة: 80]، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لأزيدن على السبعين" ،وفي حديث آخر: "لو علمت أني إن زدت على السبعين غفر لهم لزدت" ،فكأنه عليه السلام رجا أن هذا الحد ليس على جهة الحتم جملة، بل على أن ما يجاوزه يخرج عن حكمه، فلما فعل ابن أبي وأصحابه ما فعلوا شدد الله تعالى عليهم في هذه السورة، وأعلم أنه لن يغفر لهم دون حد في الاستغفار، وفي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو أعلم أني إن زدت غفر لهم" نص على رفض دليل الخطاب.
وقرأ جمهور الناس: "أستغفرت" بالقطع وألف الاستفهام، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع: "آستغفرت" بمدّ على الهمزة وهي ألف التسوية، وقرأ أيضاً: بوصل الألف دون همز على الخبر، وفي هذا كله ضعف لأنه في الأولى: أثبت همزة الوصل، وقد أغنت عنها همزة الاستفهام، وفي الثانية: حذف همزة الاستفهام وهو يريدها وهذا مما لا يستعمل إلا في الشعر.
وقوله تعالى: { هم الذين } أشار عبد الله بن أبي ومن قال بقوله، قاله علي بن سليمان ثم سفه أحلامهم في أن ظنوا إنفاقهم هو سبب رزق المهاجرين ونسوا أن جريان الرزق بيد الله تعالى، إذا انسد باب انفتح غيره، وقرأ الفضل بن عيسى الرقاشي: "حتى يُنفِضْوا" بضم الياء وتخفيف الفاء، يقال: "أنفَضَ" الرجل إذا فني طعامه فنفض وعاءه والخزائن موضع الإعداد، ونجد القرآن قد نطق في غير موضع بالخزائن ونجد في الحديث:
"خزنة الربح" وفي القرآن: { { من جبال فيها من برد } [النور: 43]، فجائز أن تكون هذه عبارة عن القدرة وأن هذه الأشياء إيجادها عند ظهورها جائز. وهو الأظهر. إن منها أشياء مخلوقة موجودة يصرفها الله تعالى حيث شاء، وظواهر ألفاظ الشريعة تعطي هذا. ومعناه في التفسير قال عتت على الخزان، وفي الحديث: "ما انفتح من خزائن الربح على قوم عاد إلا قدر حلقة الخاتم، ولو انفتح مقدار منخر الثور لهلكت الدنيا" ،وقال رجل لحاتم الأصم: من أين تأكل، فقرأ: { ولله خزائن السماوات والأرض }، وقال الجنيد: { خزائن } السماء: الغيوب، و { خزائن } الأرض: القلوب: وقرأ الجمهور: "ليُخرِجن الأعز" بضم الياء وكسر الراء بمعنى أن العزيز يخرج الذليل ويبعده، وقال أبو حاتم: وقرئ "لنَخرُجن" بنون الجماعة مفتوحة، وضم الراء، "الأعزَّ" نصباً منها، "الأذلَّ" أيضاً نصباً على الحال، وذكرها أبو عمر الداني عن الحسن، ورويت هذه القراءة: "لنُخرِجن" بضم النون وكسر الراء، وقرأ قوم فيما حكى الفراء والكسائي، وذكرها المهدوي: "ليَخرُجن الأعز منها الأذلَّ" بفتح الياء وضم الراء. ونصب "الأذلَّ" على الحال بمعنى: أن نحن الذين كنا أعزة سنخرج أذلاء، وجاءت هذه الحال معرفة، وفيها شذوذ، وحكى سيبويه: أدخلوا الأول فالأول، ثم أعلم تعالى أن العزة لله وللرسول وللمؤمنين، وفي ذلك وعيد، وروي أن عبد الله بن عبد الله بن أبي، وكان رجلاً صالحاً لما سمع الآية، جاء إلى أبيه فقال له: أنت والله يا أبت الذليل، ورسول الله العزيز، فلما وصل الناس إلى المدينة، وقف عبد الله بن عبد الله على باب السكة التي يسلكها أبوه، وجرد السيف ومنعه الدخول، وقال: والله لا دخلت إلى منزلك إلا أن يأذن في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعبد الله بن أبي في أذل الرجال، وبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث إليه أن خلّه يمض إلى منزله، فقال: أما الآن فنعم، فمضى إلى منزله.