التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قُوۤاْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ
٦
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَعْتَذِرُواْ ٱلْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
٧
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ تُوبُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ يَوْمَ لاَ يُخْزِى ٱللَّهُ ٱلنَّبِيَّ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَىٰ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَٱغْفِرْ لَنَآ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٨
-التحريم

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

قوله تعالى: { قوا أنفسكم وأهليكم } معناه: اجعلوا وقاية بينكم وبين النار، وقد تقدم غير مرة تعليل اللفظة، وقوله تعالى: { وأهليكم } معناه: بالوصية لهم والتقويم والحمد على طاعة الله تعالى، وفي حديث: "لا تزن فيزني أهلك" ، وفي حديث آخر: "رحم الله رجلاً قال: يا أهلاه، صلاتكم، صيامكم، مسكينكم، يتيمكم" ، وقرأ الجمهور: "وقَودها" بفتح الواو، وقرأ مجاهد والحسن وطلحة وعيسى والفياض بن غزوان وأبو حيوة بضمها، وقيل هما بمعنى، وقيل الضم مصدر والفتح اسم، ويروى أن { الحجارة }: هي حجارة الكبريت، وقد تقدم القول في ذلك في سورة البقرة. ويروى أنها جميع أنواع الحجارة، وفي بعض الحديث أن عيسى ابن مريم سمع أنيناً في فلاة من الأرض فتبعه حتى بلغ إلى حجر يئن ويحزن، فقال له: ما بالك أيها الحجر؟ فقال: يا روح الله، إني سمعت الله يقول: { وقودها الناس والحجارة }، فخفت أن أكون من تلك الحجارة، فعجب منه عيسى وانصرف، ويشبه أن يكون هذا المعنى في التوراة أو في الإنجيل، فذلك الذي سمع الحجر إذا عبر عنه بالعربية كان هذا اللفظ، ووصف الملائكة بالغلظة معناه في القلوب والبطش الشديد والفظاظة، كما قال تعالى لنبيه: { { ولو كنت فظّاً غليظ القلب لانفضوا من حولك } [آل عمران: 159] والشدة القوة، وقيل المراد شدتهم على الكفار، فهي بمعنى الغلظ، ووصفهم تعالى بالطواعية لربهم، وكرر المعنى تأكيداً بقوله تعالى: { ويفعلون ما يؤمرون }، وفي قوله تعالى: { ويفعلون ما يؤمرون } ما يقتضي أنهم يدخلون الكفار النار بجد واختيار، ويغلظون عليهم، فكأنه قال بعد تقرير هذا المعنى، فيقال للكفار: { لا تعتذروا اليوم }: أي إن المعذرة لا تنفعكم، وإنما تجزون بأعمالكم فلا تلوموا إلا أنفسكم، ثم أمر عباده بالتوبة، والتوبة فرض على كل مسلم، وتاب معناه: رجع فتوبة العبد: رجوعه من المعصية إلى الطاعة، وتوبة الله تعالى على العبد إظهار صلاحه ونعمته عليه في الهداية إلى الطاعة، وقبول توبة الكفار يقطع بها على الله إجماعاً من الأمة، واختلف الناس في توبة العاصي، فجمهور أهل السنة على أنه لا يقطع بقبولها ولا ذلك على الله بواجب، والدليل على ذلك دعاء كل واحد من المذنبين في قبول التوبة ولو كانت مقطوعاً بها لما كان معنى للدعاء في قبولها، وظواهر القرآن في ذلك هي كلها بمعنى المشيئة، وروي عن أبي الحسن الأشعري أنه قال: التوبة إذا توفرت شروطها قطع على الله بقبولها لأنه تعالى أخبر بذلك.
قال القاضي أبو محمد: وهذا المسك بظواهر القرآن، وعلى هذا القول أطبقت المعتزلة، والتوبة الندم على فارط المعصية والعزم على ترك مثلها في المستقبل، وهذا من المتمكن، وأما غير المتمكن كالمجبوب في الزنا فالندم وحده يكفيه، والتوبة عبادة كالصلاة ونحوها، فإذا تاب العبد وحصلت توبته بشروطها وقبلت ثم عاود الذنب، فتوبته الأولى لا تفسدها عودة بل هي كسائر ما تحصل من العبادات، والنصوح بناء مبالغة من النصح إلى توبة نصحت صاحبها وأرشدته، وقرأ الجمهور: "نَصوحاً" بفتح النون، وقرأ أبو بكر عن عاصم وخارجة عن نافع والحسن والأعرج وعيسى: "نُصوحاً" بضم النون، وهو مصدر، يقال: نصح، ينصح، نصاحة، ونصاحة قاله الزجاج، فوصف التوبة بالمصدر كالعدل والزور وغيره، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: التوبة النصوح، هي أن يتوب ثم لا يعود، وقال أبو بكر الوراق: هي أن تضيق عليك الأرض بما رحبت كتوبة الذين خلفوا، وقوله تعالى: { عسى ربكم } الآية، ترجية، وقد روي أن { عسى } من الله واجبة، والعامل في { يوم } قوله: { يدخلكم }، وروي في معنى قوله تعالى: { يوم لا يخزي الله النبي }،
"أن محمداً صلى الله عليه وسلم تضرع في أمر أمته فأوحى الله إليه: إن شئت جعلت حسابهم إليك، فقال: يا رب أنت أرحم بهم فقال الله تعالى: إذا لا أخزيك فيهم" ، فهذا معنى قوله: { يوم لا يخزي الله النبي }، والخزي المكروه الذي يترك الإنسان حيران خجلاً مهموماً بأن يرى نقصه، أو سوء منزلته، وقوله تعالى: { والذين آمنوا معه } يحتمل أن يكون معطوفاً على { النبي } فيخرج المؤمنون من الخزي، ويحتمل أن يكون ابتداء، و { نورهم يسعى } جملة هي خبره، ويبقى النبي صلى الله عليه وسلم مخصوصاً مفضلاً بأنه لا يخزى، وقد تقدم القول في نظير قوله: { { يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم } [التحريم: 8]، وقرأ سهل بن سعد: "وبإيمانهم"، بكسر الهمزة، وقوله تعالى: { ربنا أتمم لنا نورنا }، قال الحسن بن أبي الحسن هو عندما يرون من انطفاء نور المنافقين حسبما تقدم تفسيره، وقيل يقول من أعطي من النور بقدر ما يرى قدميه فقط.