التفاسير

< >
عرض

فَإِذَا جَآءَتْهُمُ ٱلْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَـٰذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَىٰ وَمَن مَّعَهُ أَلاۤ إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ ٱللَّهِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
١٣١
وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ
١٣٢
فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ ٱلطُّوفَانَ وَٱلْجَرَادَ وَٱلْقُمَّلَ وَٱلضَّفَادِعَ وَٱلدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلاَتٍ فَٱسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ
١٣٣
-الأعراف

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

كان القصد في إصابتهم بالقحط والنقص في الثمرات أن ينيبوا ويرجعوا فإذا بهم قد ضلوا وجعلوها تشاؤماً بموسى فكانوا إذا اتفق لهم اتفاق حسن في غلات ونحوها قالوا هذا لنا وبسببنا وعلى الحقيقة لنا، وإذا نالهم ضر قالوا هذا بسبب موسى وشؤمه، قاله مجاهد وغيره، وقرأ جمهور الناس بالياء وشد الطاء والياء الأخيرة "يطيّروا"، وقرأ عيسى بن عمرو وطلحة بن مصرف بالتاء وتخفيف الطاء "تطيروا"، وقرأ مجاهد "تشاءموا بموسى" بالتاء من فوق وبلفظ الشؤم.
وقوله تعالى: { ألا إنما طائرهم } معناه حظهم ونصيبهم، قاله ابن عباس وهو مأخوذ من زجر الطير فسمي ما عند الله من القدر للإنسان طائراً لما كان الإنسان يعتقد أن كل ما يصيبه إنما هو بحسب ما يراه في الطائر، فهي لفظة مستعارة، وقرأ جمهور الناس "طائرهم"، وقرأ الحسن بن أبي الحسن "طيرهم". وقال { أكثرهم } وجميعهم لا يعلم إما لأن القليل علم كالرجل المؤمن وآسية امرأة فرعون وإما أن يراد الجميع وتجوز في العبارة لأجل الإمكان، ويحتمل أن يكون الضمير في قوله { طائرهم } لجميع العالم ويجيء تخصيص الأكثر على ظاهره، ويحتمل أن يريد ولكن أكثرهم ليس قريباًَ أن يعلم لانغمارهم في الجهل، وعلى هذا فيهم قليل معد لأن يعلم لو وفقه الله.
و { مهما } أصلها عند الخليل "ما ما" فبدلت الألف الأولى هاء، وقال سيبويه: هي "مه ما" خلطتا وهي حرف واحد، وقال غيره: معناه "مه وما" جزاء ذكره الزجّاج، وهذه الآية تتضمن طغيانهم وعتوهم وقطعهم على أنفسهم بالكفر البحت.
وقوله تعالى: { فأرسلنا عليهم الطوفان } الآية، قال الأخفش { الطوفان } جمع طوفانة وهذه عقوبات وأنواع من العذاب بعثها الله عليهم ليزدجروا وينيبوا، و { الطوفان } مصدر من قولك طاف يطوف فهو عام في كل شيء يطوف إلا أن استعمال العرب له كثر في الماء والمطر الشديد، ومنه قول الشاعر: [الرمل]

غير الجدة من عرفانه خرق الريح وطوفان المطر

ومنه قول أبي النجم: [الرجز]

ومد طوفان فبث مددا شهراً شآبيب وشهراً بردا

وقال ابن عباس ومجاهد والضحاك: إن { الطوفان } في هذه الآية المطر الشديد أصابهم وتوالى عليهم حتى هدم بيوتهم وضيق عليهم، وقيل طم فيض النيل عليهم وروي في كيفيته قصص كثير، وقالت عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم: إن { الطوفان } المراد في هذه الآية هو الموت، وقال ابن عباس في بعض ما روي عنه هو مصدر معمى عني به شيء أطافه الله بهم، و { الجراد } معروف، قال الأخفش هو جمع جرادة للمذكر والمؤنث فإن أردت الفصل قلت رأيت جرادة ذكراً، وروي: أن الله عز وجل لما والى عليهم المطر غرقت أرضهم وامتنعوا الزراعة قالوا يا موسى ادع في كشف هذا عنا نحن نؤمن، فدعا فدفعه الله عنهم فأنبتت الأرض إنباتاً حسناً فطغوا وقالوا ما نود أنا لم نمطر وما هذا الإحسان من الله إلينا، فبعث الله حينئذ الجراد فأكل جميع ما أنبتت الأرض، وروى ابن وهب عن مالك أنه روي أنه أكل أبوابهم وأكل الحديد والمسامير وضيق عليهم غاية التضييق وترك الله من نباتهم ما يقوم به الرمق فقالوا لموسى ادع في كشف الجراد ونحن نؤمن، فدعا فكشف فرجعوا إلى كفرهم ورأوا أن ما أقام رمقهم قد كفاهم، فبعث الله عليهم القمل وهي الدبى صغار الجراد الذي يثب ولا يطير قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة، وقيل هو الحمثان وهو صغار القردان وقيل هو البراغيث وقال ابن عباس { القمل } السوس الذي يخرج من الحنطة، وقيل { القمل } الزرع إنه حيوان صغير جداً أسود وإنه بأرض مصر حتى الآن، قال حبيب بن أبي ثابت: { القمل } الجعلان، وقرأ الحسن "القَمْل" بفتح القاف وسكون الميم فهي على هذا بينة القمل المعروف، وروي أن موسى مشى بعصاه إلى كثيب أهيل فضربه فانتشر كله قملاً في مصر، ثم إنهم قالوا ادع في كشف هذا فدعا ورجعوا إلى طغيانهم وكفرهم، وبعث الله عليهم الضفادع فكانت تدخل في فرشهم وبين ثيابهم وإذا هم الرجل أن يتكلم وثب الضفدع في فمه، قال ابن جبير: كان الرجل يجلس إلى دفنه في الضفادع، وقال ابن عباس: كانت الضفادع برية فلما أرسلت على آل فرعون سمعت وأطاعت فجعلت تقذف أنفسها في القدور وهي تغلي فأثابها الله بحسن طاعتها برد الماء.
فقالوا ادع في كشف هذا فدعا فكشف فرجعوا إلى كفرهم وعتوهم فبعث الله عليهم الدم فرجع ماؤهم الذي يستقونه ويحصل عندهم دماً، فروي أن الرجل منهم كان يستقي من البئر فإذا ارتفع إليه الدلو عاد دماً، وروي أنه كان يستقي القبطي والإسرائيلي بإناء واحد فإذا خرج الماء كان الذي يلي القبطي دماً والذي يلي الإسرائيلي ماء إلى نحو هذا وشبهه من العذاب بالدم المنقلب عن الماء، هذا قول جماعة المتأولين، وقال زيد بن أسلم: إنما سلط الله عليهم الرعاف فهذا معنى قوله والدم.
وقوله تعالى: { آيات مفصلات } التفصيل أصله في الأجرام إزالة الاتصال، فهو تفريق شيئين، فإذا استعمل في المعاني فيراد أنه فرق بينها وأزيل اشتراكها وإشكالها، فيجيء من ذلك بيانها وقالت فرقة من المفسرين: { مفصلات } يراد به مفرقات بالزمن، والمعنى أنه كان العذاب يرتفع ثم يبقون مدة شهر، وقيل ثمانية أيام ثم يرد الآخر، فالمراد أن هذه الأنواع من العذاب لم تجىء جملة ولا متصلة، ثم وصفهم الله عز وجل بالاستكبار عن الآيات والإيمان، وأنهم كان لهم اجترام على الله تعالى وعلى عباده.