التفاسير

< >
عرض

هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ ٱلَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِٱلْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَآ أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ ٱلَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ
٥٣
إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ يُغْشِي ٱلَّيلَ ٱلنَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ وَٱلنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ ٱلْخَلْقُ وَٱلأَمْرُ تَبَارَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ
٥٤
-الأعراف

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

{ ينظرون } معناه ينتظرون، و "التأويل" في هذا الموضع بمعنى المآل والعاقبة، قاله قتادة ومجاهد وغيرهما، وقال ابن عباس: { تأويله } مآله يوم القيامة، وقال السدي: ذلك في الدنيا وقعة بدر وغيرها ويوم القيامة أيضاً، والمراد هل ينتظر هؤلاء الكفار إلا مآل الحال في هذا الدين وما دعوا إليه وما صدروهم عنه وهم يعتقدون مآله جميلاً لهم؟ فأخبر الله عز وجل أن مآله يوم يأتي يقع معه ندمهم، ويقولون تأسفاً على ما فاتهم من الإيمان لقد صدقت الرسل وجاءوا بالحق, فالتأويل على هذا مأخوذ من آل يؤول، وقال الخطابي: أولت الشيء رددته إلى أوله فاللفظة مأخوذة من الأول، حكاه النقاش.
قال القاضي أبو محمد: وقد قيل أولت معناه طلبت أول الوجوه والمعاني و { نسوه } في الآية يحسن أن يكون النسيان من أول الآية بمعنى الترك ويقرون بالحق ويستفهمون عن وجوه الخلاص في وقت لا مستعتب لهم فيه، وقرأت فرقة: "أو نردُّ" برفع الفعل على تقدير أو هل نرد وبنصب "فنعملَ" في جواب هذا الاستفهام الأخير، وقرأ الحسن بن أبي الحسن "أو نردُّ فنعملُ" بالرفع فيهما على عطف "فنعمل"، وقرأ ابن أبي إسحاق وأبو حيوة "أو نردَّ فنعمل" ونصب نرد في هذه القراءة إما على العطف على قوله: { فيشفعوا }, وإما بما حكاه الفراء من أن "أو تكون" بمعنى حتى كنحو قول امرىء القيس:

أو نموت فنعذرا

ويجيء المعنى، أن الشفاعة تكون في أن يردوا ثم أخبر تعالى عن خسارتهم أنفسهم واضمحلال افترائهم على الله وكذبهم في جعل الأصنام آلهة.
وقوله تعالى: { إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام } الآية، خطاب عام يقتضي التوحيد والحجة وعليه بدلائله، والرب أصله في اللغة المصلح من رب يرب وهو يجمع في جهة ذكر الله تعالى المالك والسيد وغير ذلك من استعمالات العرب، ولا يقال الرب معرفاً إلا لله، وإنما يقال في البشر بإضافة، وروى بكار بن الشقير "إن ربكم اللهَ" بنصب الهاء، وقوله { في ستة أيام } حكى الطبري عن مجاهد أن اليوم كألف سنة، وهذا كله والساعة اليسيرة سواء في قدرة الله تعالى، وأما وجه الحكمة في ذلك فمما انفرد الله عز وجل بعلمه كسائر أحوال الشرائع، وما ذهب إليه من أراد أن يوجه هذا كالمهدوي وغيره تخرص، وجاء في التفسير وفي الأحاديث أن الله ابتدأ الخلق يوم الأحد وكملت المخلوقات يوم الجمعة، ثم بقي دون خلق يوم السبت، ومن ذلك اختارته اليهود لراحتها، وعلى هذا توالت تفاسير الطبري وغيره، ولليهود لعنهم الله تعالى في هذا كلام سوء تعالى الله عما يصفون.
ووقع حديث في كتاب مسلم بن الحجاج في كتاب الدلائل لثابت السرقسطي، أن الله تعالى خلق التربة يوم السبت وذكره مكي في الهداية، وقوله تعالى: { استوى على العرش } معناه عند أبي المعالي وغيره من حذاق المتكلمين بالملك والسلطان، وخص العرش بالذكر تشريفاً له إذ هو أعظم المخلوقات، وقال سفيان الثوري: فعل فعلاً في العرش سماه استواء.
قال القاضي أبو محمد: و { العرش } مخلوق معين جسم ما، هذا الذي قررته الشريعة، وبلغني عن أبي الفضيل بن النحوي أنه قال: العرش مصدر عرش يعرش عرشاً، والمراد بقوله { استوى على العرش } هذا.
قال القاضي أبو محمد: وهذا خروج كثير عن ما فهم من العرش في غير ما حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر "يُغشي" من أغشى، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وحمزة والكسائي "يغشّي" بالتشديد من غشّى، وهما طريقان في تعدية "غشي" إلى مفعول ثان، وقرأ حميد "يغَشَى" بفتح الياء والشين ونصب "الليلَ" ورفع "النهارُ"، كذا قال أبو الفتح وقال أبو عمرو الداني برفع "الليلُ".
قال القاضي أبو محمد: وأبو الفتح أثبت و { حثيثاً } معناه سريعاً، و { يطلبه حثيثاً } حال من الليل بحسب اللفظ على قراءة الجماعة، ومن النهار بحسب المعنى، وأما على قراءة حميد فمن النهار في الوجهين، ويحتمل أن يكون حالاً منهما، ومثله قوله تعالى:
{ { فأتت به قومها تحمله } [مريم:27] فيصح أن يكون { تحمله } حالاً منها، وأن يكون حالاً منه وأن يكون حالاًَ منهما و { مسخرات } في موضع الحال، وقرأ ابن عامر وحده من السبعة و "الشمسُ والقمرُ والنجومُ مسخراتٌ" بالرفع في جميعها، ونصب الباقون هذه الحروف كلها، وقرأ أبان بن تغلب و "الشمسَ والقمرَ" بالنصب، و "النجومُ مسخراتٌ" بالرفع.
و { ألا } استفتاح كلام فاستفتح بها في هذا الموضع هذا الخبر الصادق المرشد.
قال القاضي أبو محمد: وأخذ المفسرون { الخلق } بمعنى المخلوقات. أي هي له كلها وملكه واختراعه، وأخذوا { الأمر } مصدراً من أمر يأمر، وعلى هذا قال النقاش وغيره: إن الآية ترد على القائلين بخلق القرآن لأنه فرق فيها بين المخلوقات وبين الكلام إذ الأمر كلامه عز وجل.
قال القاضي أبو محمد: ويحتمل أن تؤخذ لفظة { الخلق } على المصدر من خلق يخلق خلقاً أي له هذه الصفة إذ هو الموجد للأشياء بعد العدم، ويؤخذ { الأمر } على أنه واحد من الأمور إلا أنه يدل على الجنس فيكون بمنزلة قوله
{ { وإليه يرجع الأمر كله } [هود:123] وبمنزلة قوله { { وإلى الله ترجع الأمور } [البقرة: 210] فإذا أخذت اللفظتان هكذا خرجتا عن مسألة الكلام.
قال القاضي أبو محمد: ولما تقدم في الآية خلق وبأمره تأكد في آخره أن { له الخلق والأمر } المصدرين حسب تقدمهما، وكيف ما تأولت الآية فالجميع لله، وأسند الطبري إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" من زعم أن الله تعالى جعل لأحد من العباد شيئاً من الأمر فقد كفر بما أنزل الله لقوله تعالى: { ألا له الخلق والأمر } " ، قال النقاش: ذكر الله الإنسان في القرآن في ثمانية عشر موضعاً في جميعها أنه مخلوق، وذكر القرآن في أربعة وخمسين موضعاً ليس في واحد منها إشارة إلى أنه مخلوق، وقال الشعبي { الخلق } عبارة عن الدنيا و { الأمر } عبارة عن الآخرة، و { تبارك } معناه عظم وتعالى وكثرت بركاته، ولا يوصف بها إلا الله تعالى، و { تبارك } لا يتصرف في كلام العرب، لا يقال منه يتبارك، وهذا منصوص عليه لأهل اللسان.
قال القاضي أبو محمد: وعلة ذلك أن { تبارك } لما لم يوصف بها غير الله تعالى لم تقتض مستقبلاً إذ الله قد تبارك في الأزل، وقد غلط بها أبو علي القالي فقيل له كيف المستقبل من تبارك فقال يتبارك فوقف على أن العرب، لم تقله، و "الرب" السيد المصلح، و { العالمين } جمع عالم.