التفاسير

< >
عرض

وَقَالَ ٱلْمَلأُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَئِنِ ٱتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ
٩٠
فَأَخَذَتْهُمُ ٱلرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ
٩١
ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْباً كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْباً كَانُواْ هُمُ ٱلْخَاسِرِينَ
٩٢
فَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يٰقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَـٰلَـٰتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ ءَاسَىٰ عَلَىٰ قَوْمٍ كَٰفِرِينَ
٩٣
-الأعراف

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

هذه المقالة قالها الملأ لتبّاعهم وسائر الناس الذي يقلدونهم، و { الرجفة } الزلزلة الشديدة التي ينال معها الإنسان اهتزاز وارتعاد واضطراب.
قال القاضي أبو محمد: ويحتمل أن فرقة من قوم شعيب أهلكت بـ { الرجفة } وفرقة بالظلة ويحتمل أن الظلة و { الرجفة } كانتا في حين واحد، وروي أن الله تعالى بعث { شعيباً } إلى أهل مدين وإلى أصحاب الأيكة، وقيل هما طائفتان وقيل واحدة وكانوا مع كفرهم يبخسون الكيل والوزن فدعاهم فكذبوه فجرت بينهم هذه المقاولة المتقدمة، فلما عتوا وطالت بهم المدة فتح الله عليهم باباً من أبواب جهنم فأهلكهم الحر منه فلم ينفعهم ظل ولا ماء، ثم إنه بعث سحابة فيها ريح طيبة فوجدوا برد الريح وطيبها فتنادوا، عليكم الظلة، فلما اجتمعوا تحت الظلة وهي تلك السحابة انطبقت عليهم فأهلكتهم، قال الطبري: فبلغني أن رجلاً من أهل مدين يقال له عمرو بن جلهاء قال لما رأها: [البسيط]

يا قوم إن شعيباً مرسل فذروا عنكم سميراً وعمران بن شداد
إني أرى غيمة يا قوم قد طلعت تدعو بصوت على ضمّانة الواد
وإنه لن تروا فيها ضحاء غد إلا الرقيم يمشّي بين أنجاد

وسمير وعمران كاهناهم والرقيم كلبهم، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا ذكر "شعيباً" قال: ذلك خطيب الأنبياء لقوله لقومه: { { وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب } [هود:88].
قال القاضي أبو محمد: يريد لحسن مراجعته وجميل تلطفه. وحكى الطبري عن أبي عبد الله البجلي أنه قال: أبو جاد وهو زوحطي وكلمن وصعفض وقرست أسماء ملوك مدين، وكان الملك يوم الظلة كلمن، فقالت أخته ترثيه: [مجزوء الرمل]

كلمن قد هد ركني هلكه وسط المحله
سيد القوم اتساه حتف نار وسط ظله
جعلت نار عليهم دارهم كالمضمحله

قال القاضي أبو محمد: وهذه حكاية مظنون بها والله علم، وقد تقدم معنى { جاثمين }.
وقوله: { كأن لم يغنوا فيها } لفظ فيه للإخبار عن قوة هلاكهم ونزول النقمة بهم والتنبيه على العبرة بهم، ونحو هذا قول الشاعر:

كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا

و { يغنوا } معناه يقيموا ويسكنوا.
قال القاضي أبو محمد: وغنيت في المكان إنما يقال في الإقامة التي هي مقترنة بتنعم وعيش مرضٍ، هذا الذي استقريت من الأشعار التي ذكرت العرب فيها هذه اللفظة فمن ذلك قول الشاعر: [الوافر]

وقد نغنى بها ونرى عصوراً بها يقتدننا الخرد الخذالا

ومنه قول الآخر: [الرمل]

ولقد يغني بها جيرانك المسـ ـتمسكو منكم بعهد ووصال

أنشده الطبري، ومنه قول الآخر: [الطويل]

ألا حيّ من أجلِ الحبيبِ المغانيا

ومنه قول مهلهل: [الخفيف]

غنيت دارنا تهامة في الدهر وفيها بنو معد حَلُّوا

ويشبه أن تكون اللفظة من الاستغناء، وأما قوله: كأن لم تغن بالأمس ففيه هذا المعنى لأن المراد كأن لم تكن ناعمة نضرة مستقلة، ولا توجد فيما علمت إلا مقترنة بهذا المعنى وأما قول الشاعر: [الطويل]

غنينا زماناً بالتصعلك والغنا وكلاً سقاناه بكأسيهما الدهرُ

فمعناه استغنينا بذلك ورضيناه مع أن هذه اللفظة ليست مقترنة بمكان.
وقوله: { يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي } إلى آخر الآية كلام يقتضي أن { شعيباً } عليه السلام وجد في نفسه لما رأى هلاك قومه حزناً وإشفاقاً إذ كان أمله فيهم غير ذلك، فلما وجد ذلك طلب أن يثير في نفسه سبب التسلي عنهم والقسوة عليهم فجعل يعدد معاصيهم وإعراضهم الذي استوجبوا به أن لا يتأسف عليهم، فذكر أنه بلغ الرسالة ونصح، والمعنى فأعرضوا وكذبوا، ثم قال لنفسه لما نظرت في هذا وفكرت فيه { فكيف آسى } على هؤلاء الكفرة، ويحتمل أن يقول هذه المقالة على نحو قول النبي صلى الله عليه وسلم لأهل قليب بدر، وقال مكي: وسار شعيب بمن معه حتى سكن مكة إلى أن ماتوا بها، و { آسى }: أحزن، وقرأ بن وثاب وطلحة بن مصرف والأعمش: "إيسى" بكسر الهمزة وهي لغة كما يقال أخال وأيمن، قال عبد الله ابن عمر لا أخاله، وقال ابنه عبد الله بن عبد الله بن عمر في كتاب الحج لا أيمن وجميع ذلك في البخاري، وهذه اللغة تطرد في العلامات الثلاث، همزة التكلم ونون الجماعة وتاء المخاطبة، ولا يجوز ذلك في ياء الغائب كذا قال سيبويه، وأما قولهم من وجل ييجل فلعله من غير هذا الباب.