المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز
اختلف الناس في تأويل قوله { إلا بلاغاً }: فقال الحسن ما معناه أنه استثناء منقطع، والمعنى لن
يجيرني من الله أحد { إلا بلاغاً }، فإني إن بلغت رحمني بذلك، والإجارة: للبلاغ مستعارة إذ هو سبب
إجارة الله تعالى ورحمته، وقال بعض النحاة على هذا المعنى هو استثناء متصل. والمعنى لن أجد ملتحداً
{ إلا بلاغاً }، أي شيئاً أميل إليه وأعتصم به إلا أن أبلغ وأطيع، فيجبرني الله. وقال قتادة: التقدير لا أملك
{ إلا بلاغاً } إليكم، فأما الإيمان أو الكفر فلا أملكه. وقال بعض المتأولين { إلا } بتقدير الانفصال، و "إن"
شرط و "لا" نافية كأنه يقول: ولن أجد ملتحداً إن لم أبلغ من الله ورسالته، و { من } في قوله { من الله }
لابتداء الغاية. وقوله تعالى: { ومن يعص الله } يريد الكفر بدليل الخلود المذكور. وقرأ طلحة وابن
مصرف، "فإن له" على معنى فجزاؤه أن له، وقوله { حتى إذا رأوا }، ساق الفعل في صيغة الماضي تحقيقاً
لوقوعه. وقوله تعالى: { من أضعف } يحتمل أن تكون { مَن } في موضع رفع على الاستفهام والابتداء
و { أضعف } خبرها، ويحتمل أن تكون في موضع نصب بـ { سيعلمون }، و { أضعف } خبر لابتداء
مضمر، ثم أمره تعالى بالتبري من معرفة الغيب في وقت عذابهم الذي وعدوا به، والأمد: المدة والغاية،
و { عالم } يحتمل أن يكون بدلاً من { ربي } [الجن: 20] ويحتمل أن يكون خبر ابتداء مضمر على
القطع، وقرأ السدي: "عالم الغيب" على الفعل الماضي ونصب الباء، وقرأ الحسن: "فلا يَظهَر" بفتح الياء
والهاء "أحدٌ" بالرفع. وقوله تعالى: { إلا من ارتضى من رسول } معناه فإنه يظهره على ما شاء مما هو قليل
من كثير، ثم يبث تعالى حول ذلك الملك الرسول حفظة { رصداً } لإبليس وحزبه من الجن والإنس،
وقوله تعالى: { ليعلم } قال قتادة معناه { ليعلم } محمد أن الرسل { قد أبلغوا رسالات ربهم } وحفظوا
ومنع منهم. وقال سعيد بن جبير: معناه يعلم محمد أن الملائكة الحفظة، الرصد النازلين بين يديه جبريل
وخلفه { قد أبلغوا رسالات ربهم }. وقال مجاهد { ليعلم } من كذب وأشرك أن الرسل قد بلغت.
قال القاضي أبو محمد: وهذا العلم لا يقع لهم إلا في الآخرة، وقيل معناه { ليعلم } الله رسالته
مبلغة خارجة إلى الوجود لأن علمه بكل شيء قد تقدم، وقرأ الجمهور: "ليَعلم" بفتح الياء أي الله تعالى.
وقرأ ابن عباس: "ليُعلم" بضم الياء، وقرأ أبو حيوة: "رسالة ربهم" على التوحيد، وقرأ ابن أبي عبلة:
"وأحيط" على ما لم يسم فاعله، وقوله تعالى: { وأحصى كل شيء } معناه كل شيء معدود، وقوله تعالى:
{ ليعلم } الآية، مضمنه أنه تعالى قد علم ذلك، فعلى هذا الفعل المضمر انعطف { وأحاط }،
{ وأحصى } والله المرشد للصواب بمنه.