التفاسير

< >
عرض

وَٱتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ
٢٥
وَٱذْكُرُوۤاْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي ٱلأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ ٱلنَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِّنَ ٱلطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
٢٦
-الأنفال

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

هذه الآية تحتمل تأويلات، أسبقها إلى النفس أن يريد الله أن يحذر جميع المؤمنين من فتنة إن أصابت لم تخص الظلمة فقط، بل تصيب الكل من ظالم وبريء، وهذا التأويل تأول فيها الزبير بن العوام رضي الله عنه، فإنه قال يوم الجمل وما علمت أنَّا أردنا بهذه الآية إلا اليوم، وما كنت أظنها إلا فيمن خوطب بها ذلك الوقت، وكذلك تأول الحسن البصري، فإنه قال: هذه الآية في علي وعمار وطلحة والزبير، وكذلك تأول ابن عباس، فإنه قال: أمر الله المؤمنين في هذه الآية أن لا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم العذاب، وبينه القتبي فيما ذكر مكي عنه بياناً شافياً.
قال القاضي أبو محمد: فيجيء قوله { لا تصيبن } على هذا التأويل صفة لـ { فتنة } ، فكان الواجب إذا قدرنا ذلك أن يكون اللفظ لا تصيب وتلطف لدخول النون الثقيلة في الخبر عن الفتنة فقال الزجّاج: زعم بعض النحويين أن الكلام جزاء فيه طرق من النهي، قال ومثله قوله تعالى:
{ { ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم } [النمل:18] فالمعنى أن تدخلوا لا يحطمنكم فكذلك هذا إن تتقوا لا تصيبن، وقال قوم: هو خبر بمعنى الجزاء فلذلك أمكن دخول النون، وقال المهدوي: وقيل هو جواب قسم مقدر تقديره واتقوا فتنة لا تصيبن، ودخلت النون مع لا حملاً على دخولها مع اللام فقط.
قال القاضي أبو محمد: وهذا في القول تكره، لأن جواب القسم إذا دخلته "لا" أو كان منفياً في الجملة لم تدخل النون، وإذا كان موجباً دخلته اللام والنون الشديدة كقوله والله لا يقوم زيد والله ليقومن زيد، هذا هو قانون الباب ولكن معنى هذه الآية يستقيم مع التكره الذي ذكرناه والتأويل الآخر في الآية هو أن يكون قوله { واتقوا فتنة } خطاباً عاماً لجميع المؤمنين مستقلاً بنفسه تم الكلام عنده ثم ابتدأ نهي الظلمة خاصة عن التعرض للظلم فتصيبهم الفتنة خاصة وأخرج النهي على جهة المخاطبة للفتنة فهو نهي محول.
والعرب تفعل هذا كما قالوا لا أرينك ها هنا يريدون لا تقم ها هنا فتقع مني رؤيتك، ولم يريدوا نهي الإنسان الرائي نفسه، فكذلك المراد في الآية لا يقع من ظلمتكم ظلم فتقع من الفتنة إصابتهم، نحا إليه، الزجّاج، وهو قول أبي العباس المبرد وحكاه النقاش عن الفراء، ونهي الظلمة ها هنا بلفظ مخاطبة الجمع كما تقول لقوم لا يفعل سفهاءكم كذا وكذا وأنت إنما تريد نهي السفهاء فقط، و { خاصة } نعت لمصدر محذوف تقديره إصابة خاصة، فهي نصب على الحال لما انحذف المصدر من الضمير في { تصيبن } وهذا الفعل هو العامل، ويحتمل أن تكون { خاصة } حالاً من الضمير في { ظلموا } ولا يحتاج إلى تقدير مصدر محذوف والأول أمكن في المعنى، وقرأ علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت وأبو جعفر محمد بن علي والربيع بن أنس وأبو العالية وابن جماز "لتصيبن" باللام على جواب قسم، والمعنى على هذا وعيد الظلمة فقط، قال أبو الفتح: يحتمل أن يراد بهذه القراءة "لا تصيبن" فحذف الألف من "لا" تخفيفاً واكتفاء بالحركة كما قالوا أم والله ويحتمل أن يراد بقراءة الجماعة، "لا تصيبن" فمطلت حركة اللام فحدثت عنها ألف.
قال القاضي أبو محمد: وهذا تنطع في التحميل وحكى النقاش هذه القراءة عن الزبير بن العوام، وهذا خلاف لما حكى الطبري وغيره من تأويل الزبير رضي الله عنه في الآية، وحكى النقاش عن ابن مسعود أنه قرأ "واتقوا فتنة أن تصيب" وقوله { واعلموا أن الله شديد العقاب } وعيد يلتئم مع تأويل الزبير والحسن التئاماً حسناً ويلتئم مع سائر التأويلات بوجوه مختلفة.
وروي عن علي بن سليمان الأخفش أن قوله { لا تصيبن } هي على معنى الدعاء ذكره الزهراوي وقوله تعالى: { واذكروا إذ أنتم قليل } الآية، هذه آية تتضمن تعديد نعم الله على المؤمنين، و { إذ } ظرف لمعمول { واذكروا } ، تقديره واذكروا حالكم الكائنة أو الثابتة إذ أنتم قليل، ولا يجوز أن تكون { إذ } ظرفاً للذكر وإنما يعمل الذكر في { إذ } لو قدرناها مفعولة، واختلف الناس في الحال المشار إليها بهذه الآية، فقالت فرقة هي الأكثر: هي حال مكة في وقت بداءة الإسلام، والناس الذين يخاف "تخطفهم" كفار مكة، و "المأوى" على هذا التأويل المدينة والأنصار، و "التأييد بالنصر" وقعة بدر وما أنجز معها في وقتها، و { الطيبات } الغنائم وسائر ما فتح الله عليهم به، وقالت فرقة: الحال المشار إليها هي حال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في غزوة بدر، والناس الذي يخاف تخطفهم على هذا عسكر مكة وسائر القبائل المجاورة، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتخوف من بعضهم، والمأوى على هذا والتأييد بالنصر هو الإمداد بالملائكة والتغليب على العدو، و { الطيبات } الغنيمة.
قال القاضي أبو محمد: وهذان قولان يناسبان وقت نزول الآية لأنها نزلت عقب بدر، وقال وهب بن منبه وقتادة: الحال المشار إليها هي حال العرب قاطبة، فإنها كانت أعرى الناس أجساماً وأجوعهم بطوناً وأقلهم حالاً ونعماً، والناس الذين يخاف "تخطفهم" على هذا التأويل فارس والروم، و "المأوى" على هذا هو النبوءة والشريعة، و "التأييد بالنصر" هو فتح البلاد وغلبة الملوك، و { الطيبات } هي نعم المآكل والمشارب والملابس.
قال القاضي أبو محمد: وهذا التأويل يرده أن العرب كانت في وقت نزول هذه الآية كافرة إلا القليل, ولم تترتب الأحوال التي ذكر هذا المتأول، وإنما كان يمكن أن يخاطب العرب في هذه الآية في آخر زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فإن تمثل أحد بهذه الآية لحالة العرب فتمثله صحيح، وأما أن تكون حالة العرب هي سبب الآية فبعيد لما ذكرناه، وقوله { لعلكم تشكرون } ترج بحسب البشر متعلق بقوله { واذكروا }.