التفاسير

< >
عرض

كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ ٱلْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ
٧
وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ
٨
كِتَابٌ مَّرْقُومٌ
٩
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ
١٠
ٱلَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ ٱلدِّينِ
١١
وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ
١٢
إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ
١٣
كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ
١٤
كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ
١٥
ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُواْ ٱلْجَحِيمِ
١٦
ثُمَّ يُقَالُ هَـٰذَا ٱلَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ
١٧
-المطففين

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

هذه الآية وما بعدها يظهر أنها من نمط المكي، وهذا أحد الأقوال التي ذكرناها قبل، و { كلاّ } يجوز أن يكون ردّاً لأقوال قريش، ويحتمل أن يكون استفتاحاً بمنزلة " ألا "، وهذا قول أبي حاتم واختياره، و { الفجار } الكفار، وكتابهم يراد فيه الذي فيه تحصيل أمرهم وأفعالهم، ويحتمل عندي أن يكون المعنى وعدادهم وكتاب كونهم هو في سجين، أي هنالك كتبوا في الأزل، وقرأ أبو عمرو والأعرج وعيسى: { الفجار } بالإمالة و { الأبرار } [المطففين: 18] بالفتح قاله أبو حاتم، واختلف الناس في: { سجّين } ما هو؟ فقال الجمهور: هو فعيل من السجن كسكير وشريب أي في موضع ساجن، فجاء بناء مبالغة، قال مجاهد: وذلك في صخرة تحت الأرض السابعة، وقال كعب حاكياً عن التوراة وأبيّ بن كعب: هو في شجرة سوداء هنالك، وقيل عن النبي صلى الله عليه وسلم: في بر: هنالك وقيل تحت خد إبليس، وقال عطاء الخرساني: هي الأرض السفلى، وقاله البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال عكرمة: { سجين } ، عبارة عن الخسران والهوان، كما نقول: بلغ فلان الحضيض إذا صار في غاية الخمول، وقال قوم من اللغويين: { سجين } نونه بدل من لام هو بدل من " السجيل" وقوله تعالى: { وما أدراك ما سجين } تعظيم لأمر هذا السجين وتعجب منه، ويحتمل أن يكون تقرير استفهام، أي هذا مما لم يكن يعرفه قبل الوحي. وقوله تعالى: { كتاب مرقوم } من قال بالقول الأول في { سجين } فـ { كتاب } مرتفع عنده على خبر { إن }، والظرف الذي هو: { لفي سجين } ملغى، ومن قال في { سجين } بالقول الثاني فـ { كتاب } مرتفع على خبر ابتداء مضمر، والتقدير هو كتاب مرقوم، ويكون هذا الكلام مفسر في السجين ما هو؟ و { مرقوم } معناه: مكتوب، رقم لهم بشر، ثم أثبته تعالى { للمكذبين } بيوم الحساب والدين بالويل، وقوله: { يومئذ }، إشارة إلى ما يتضمنه المعنى في قوله { كتاب مرقوم } وذلك أنه يتضمن أنه يرتفع ليوم عرض وجزاء، وبهذا يتم الوعيد ويتجه معناه و "المعتدي": الذي يتجاوز حدود الأشياء، و "الأثيم": بناء مبالغة في آثم، وقرأ الجمهور: "تتلى"، بالتاء، وقرأ أبو حيوة: "يتلى"، بالياء من تحت، و "الأساطير": جمع أسطورة وهي الحكايات التي سطرت قديماً، قيل هو جمع: أسطار، وأسطار: جمع سطر، ويروى أن هذه الآية نزلت بمكة في النضر بن الحارث بن كلدة وهو الذي كان يقول: { أساطير الأولين }، وكان هو قد كتب بالحيرة أحاديث رستم واسبنذباذ، وكان يحدث بها أهل مكة، ويقول أنا أحسن حديثاً من محمد، فإنما يحدثكم بـ { أساطير الاولين }، وقوله تعالى: { كلا } زجر ورد لقولهم: { أساطير الأولين } ، ثم أوجب أن ما كسبوا من الكفر والطغيان، والعتو، قد { ران على قلوبهم }، أي غطى عليها وغلب فهم مع ذلك لا يبصرون رشداً ولا يخلص إلى قلوبهم خير، ويقال: رانت الخمر على عقل شاربها وران الغش على قلب المريض، وكذلك الموت، ومنه قول الشاعر:[الخفيف]

ثم لما رآه رانت به الخمر وإن لا يرينه باتقاء

والبيت لأبي زيد، وقال الحسن وقتادة: الرين الذنب على الذنب حتى يموت القلب، ويروى عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الرجل إذا أذنب صارت نقطة سوداء على قلبه ثم كذلك حتى يتغطى" فذلك الرين الذي قال الله تعالى: { كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون } وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر: { بل ران } بإدغام في الراء، وقرأ نافع: { بل ران } غير مدغمة، وقرأ عاصم: { بل } ويقف ثم يبتدئ { ران }، وقرأ حمزة والكسائي: بالإدغام وبالإمالة في { ران }، وقرأ نافع أيضاً: بالإدغام والإمالة، قال أبو حاتم: القراءة بالفتح والإدغام، وعلق اللوم بهم فيما كسبوه وإن كان ذلك بخلق منه واختراع لأن الثواب والعقاب متعلق بكسب العبد، و { كلا } في قوله تعالى: { كلا إنهم عن ربهم } يصلح فيها الوجهان اللذان تقدم ذكرهما، والضمير في قوله: { إنهم عن ربهم } هو للكفار، قال بالرؤية وهو قول أهل السنة، قال إن هؤلاء لا يرون ربهم فهم محجوبون عنه، واحتج بهذه الآية مالك بن أنس عن مسألة الرؤية من جهة دليل الخطاب وإلا فلو حجب الكل لما أغنى هذا التخصص، وقال الشافعي: لما حجب قوم بالسخط دل على أن قوماً يرونه بالرضى، ومن قال بأن لا رؤية وهو قول المعتزلة، قال في هذه الآية: إنهم محجوبون عن رحمة ربهم وغفرانه، وصلي الجحيم مباشرة حر النار دون حائل، وقوله تعالى: { ثم يقال هذا الذي }، على معنى التوبيخ لهم والتقريع، وقوله تعالى: { هذا الذي كنتم به تكذبون }، مفعول لم يسم فاعله لأنه قول بني له الفعل الذي يقال، وقوله: { هذا } إشارة إلى تعذيبهم وكونهم في الجحيم.