التفاسير

< >
عرض

فَأَمَّا ٱلإِنسَانُ إِذَا مَا ٱبْتَلاَهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّيۤ أَكْرَمَنِ
١٥
وَأَمَّآ إِذَا مَا ٱبْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّيۤ أَهَانَنِ
١٦
كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ ٱلْيَتِيمَ
١٧
وَلاَ تَحَآضُّونَ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلْمِسْكِينِ
١٨
وَتَأْكُلُونَ ٱلتُّرَاثَ أَكْلاً لَّمّاً
١٩
وَتُحِبُّونَ ٱلْمَالَ حُبّاً جَمّاً
٢٠
كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ ٱلأَرْضُ دَكّاً دَكّاً
٢١
وَجَآءَ رَبُّكَ وَٱلْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً
٢٢
-الفجر

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

ذكر الله تعالى في هذه الآية: ما كانت قريش تقوله تستدل به على إكرام الله تعالى وإهانته لعبده، وذلك أنهم كانوا يرون أن من عنده الغنى والثروة والأولاد فهو المكرم، وبضده المهان، ومن حيث كان هذا المقطع غالباً على كثيرين من الكفار، جاء التوبيخ في هذه الآية لاسم الجنس، إذ يقع بعض المؤمنين في شيء من هذا المنزع، ومن ذلك حديث الأعراب الذين كانوا يقدمون المدينة على النبي صلى الله عليه وسلم، فمن نال خيراً قال هذا دين حسن، ومن ناله شر قال هذا دين سوء، و { ابتلاه } معناه: اختبره، و { نعمه } معناه: جعله ذا نعمة، وقرأ ابن كثير " أكرمني" بالياء في وصل ووقف وحذفها عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي في الوجهين: وقرأ نافع بالياء في الوصل وحذفها في الوقف، وكذلك "أهانني"، وخير في الوجهين أبو عمرو، وقرأ جمهور الناس: " فقدَر" بتخفيف الدال، بمعنى ضيق، وقرأ الحسن بخلاف وأبو جعفر وعيسى "قدّر" بمعنى: جعله على قدر، وهما بمعنى واحد في معنى التضييق لأنه ضعف قدر مبالغة لا تعدية، ويقتضي ذلك قول الإنسان { أهانني } ، لأن " قدر " معدى إنما معناه أعطاه ما يكفيه ولا إهانة مع ذلك، ثم قال تعالى: { كلا } ردّاً على قولهم ومعتقدهم، أي ليس إكرام الله تعالى وإهانته، في ذلك، وإنما ذلك ابتلاء فحق من ابتلي بالغنى أن يشكر ويطيع، ومن ابتلي بالفقر أن يشكر ويصبر، وأما إكرام الله تعالى فهو بالتقوى، وإهانته فبالمعصية، ثم أخبرهم بأعمالهم من أنهم لا يكرمون اليتيم وهو من بني آدم الذي فقد أباه وكان غير بالغ. ومن البهائم ما فقد أمه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أحَبُّ البيوت إلى الله، بيت فيه يتيم مكرم" ،وقرأ ابن كثير وابن عامر "يحضون" بمعنى: يحض بعضهم بعضاً أو تحضون أنفسكم، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي "تحاضون" بفتح التاء بعنى تتحاضون، أي يحض قوم قوماً، وقرأ أبو عمرو و " يحضون " بياء من تحت مفتوحة وبغير ألف، وقرأ عبد الله بن المبارك: " تُحاضون" بضم التاء على وزن تقاتلون، أي أنفسكم أي بعضكم بعضاً ورواها الشيرزي عن الكسائي، وقد يجيء فاعلت بمعنى فعلت وهذا منه، وإلى هذا ذهب أبو علي وأنشد:

تحاسنت به الوشى قرات الرياح وخوزها

أي حسنت وأنشد أيضاً: [الرجز]

إذا تخازرت وما بي من خزر

ويحتمل أن تكون مفاعلة، ويتحه ذلك على زحف ما فتأمله، وقرأ الأعمش " تتحاضون" بتاءين، و { طعام } في هذه الآية بمعنى إطعام، وقال قوم أراد نفس طعامه الذي يأكل، ففي الكلام حذف تقديره على بدل { طعام المسكين } ، وقد تقدم القول في (سورة براءة) في المسكين والفقير بمعنى يغني عن إعادته، وعدد عليهم جدهم في أكل التراث لأنهم لا يورثون النساء ولا صغار الأولاد إنما كان يأخذ المال من يقاتل ويحمي الحوزة، و " اللّم ": الجمع واللف. قال الحسن: هو أن يأخذ في الميراث حظه وحظ غيره، وقال أبو عبيدة: لممت ما على الخوان إذا أكلت جميع ما عليه بأسره، ومنه لم الشعث، ومنه قول النابغة: [الطويل]

ولست بمستبق أخاً لا تلمُّه وأي شعث أي الرجال المهذب

والجم: الكثير الشديد، ومنه قول الشاعر [أبو خراش الهذلي]: [الراجز]

إن تغفر اللهم تغفر جمّاً وأي عبد لك لا ألمّا

ومنه " الجم" من الناس، ثم قال تعالى: { كلا } رداً على أفعالهم هذه وتوطئة للوعيد، أي سيرون أفعالهم ليس على قوم { وإذا دكت الأرض }، ودك الأرض تسويتها بذهاب جبالها، والناقة الدكاء التي لا سمن لها، وقوله تعالى: { وجاء ربك والملك } معناه: وجاء قدره وسلطانه وقضاؤه، قال منذر بن سعيد: معناه: ظهوره للخلق هنالك ليس مجيء نقلة وكذلك مجيء الصاخة ومجيء الطامة، و { الملك } اسم جنس: يريد جميع الملائكة، وروي أن ملائكة كل سماء تكون { صفاً } حول الأرض في يوم القيامة، وذكر الطبري في ذلك حديثاً طويلاً اختصرته، وبهذا المعنى يتفسر قوله تعالى: { { يوم التناد } } [غافر: 32] على قراءة من شد الدال، وقوله تعالى في سورة الرحمن: { { إن استطعتم أن تنفذوا } } [الرحمن: 33] الآية، وقرأ ابن كثير وعاصم ونافع وابن عامر وحمزة والكسائي في هذه الآية "تكرمون" والجحدري "يكرمون" في جميعها على ذكر الغائب إذ قد تقدم اسم جنس الإنسان.