التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلأَحْبَارِ وَٱلرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ ٱلنَّاسِ بِٱلْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ يَكْنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ
٣٤
يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـٰذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ
٣٥
-التوبة

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

المراد بهذه الآية بيان نقائص المذكورين، ونهي المؤمنين عن تلك النقائص مترتب ضمن ذلك، واللام في { ليأكلون } لام التأكيد، وصورة هذا الأكل هي بأنهم يأخذون من أموال أتباعهم ضرائب وفروضاً باسم الكنائس والبيع وغير ذلك مما يوهمونهم أي النفقة فيه من الشرع والتزلف إلى الله، وهم خلال ذلك يحتجنون تلك الأموال كالذي ذكره سلمان في كتاب السير عن الراهب الذي استخرج كنزه، وقيل كانوا يأخذون منهم من غلاتهم وأموالهم ضرائب باسم حماية الدين والقيام بالشرع، وقيل كانوا يرتشون في الأحكام، ونحو ذلك.
قال القاضي أبو محمد: وقوله تعالى { بالباطل }، يعم هذا كله، وقوله { يصدون }، الأشبه هنا أن يكون معدى أي يصدون غيرهم وهذا الترجيح إنما هو لنباهة منازلهم في قومهم و"صد" يستعمل واقفاً ومتجاوزاً، ومنه قول الشاعر [عمرو بن كلثوم]: [ الوافر]

صددت الكأس عنا أم عمرو وكان الكأس مجراها اليمينا

و { سبيل الله } الإسلام وشريعة محمد عليه السلام، ويحتمل أن يريد ويصدون عن سبيل الله في أكلهم الأموال بالباطل، والأول أرجح، وقوله { والذين } ابتداء وخبره { فبشرهم }، ويجوز أن يكون { والذين } معطوفاً عل الضمير في قوله { يأكلون } على نظر في ذلك، لأن الضمير لم يؤكد، وأسند أبو حاتم إلى علباء بن أحمد أنه قال: لما أمر عثمان بكتب المصحف أراد أن ينقص الواو في قوله { والذين يكنزون } فأبى ذلك أبي بن كعب وقال لتلحقنها أو لأضعن سيفي على عاتقي فألحقها.
قال القاضي أبو محمد : وعلى إرادة عثمان يجري قول معاوية، إن الآية في أهل الكتاب وخالفه أبو ذر فقال: بل هي فينا، فشكاه إلى عثمان فاستدعاه من الشام ثم خرج إلى الربذة، والذي يظهر من الألفاظ أنه لما ذكر نقص الأحبار والرهبان الآكلين المال بالباطل ذكر بعد ذلك بقول عامر نقص الكافرين المانعين حق المال، وقرأ طلحة بن مصرف "الذين يكنزون" بغير واو، و { يكنزون } معناه يجمعون ويحفظون في الأوعية، ومنه قول المنخل الهذلي: [ البسيط ]

لا در دري إن أطعمت نازلهم قرْف الحتيِّ وعندي البر مكنوز

أي محفوظ في أوعيته، وليس من شروط الكنز الدفن لكن كثر في حفظه المال أن يدفنوه حتى تورق في المدفون اسم الكنز، ومن اللفظة قولهم رجل مكتنز الخلق أي مجتمع، ومنه قول الراجز: [الرجز]

على شديد لحمه كناز بات ينزيني على أوفاز

والتوعد في الكنز إنما وقع على منع الحقوق منه، ولذلك قال كثير من العلماء: الكنز هو المال الذي لا تؤدى زكاته وإن كان على وجه الأرض، وأما المدفون إذا خرجت زكاته فليس بكنز كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كل ما أديت زكاته فليس بكنز" وهذه الألفاظ مشهورة عن ابن عمر وروي هذا القول عن عكرمة والشعبي والسدي ومالك وجمهور أهل العلم، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أربعة آلاف درهم فما دونها نفقة وما زاد عليها فهو كنز وإن أديت زكاته، وقال أبو ذر وجماعة معه: ما فضل من مال الرجل عن حاجة نفسه فهو كنز، وهذان القولان يقتضيان أن الذم في حبس المال لا في منع زكاته فقط، ولكن قال عمر بن عبد العزيز: هي منسوخة بقوله { { خذ من أموالهم صدقة } [التوبة:103] فأتى فرض الزكاة على هذا كله.
قال القاضي أبو محمد : كان مضمن الآية لا تجمعوا مالاً فتعذبوا فنسخه التقرير الذي في قوله
{ { خذ من أموالهم } [التوبة: 103] والضمير في قوله { ينفقونها } يجوز أن يعود على الأموال والكنوز التي يتضمنها المعنى، ويجوز أن يعود على الذهب والفضة هما أنواع، وقيل عاد على الفضة واكتفي بضمير الواحد عن الضمير الآخر إذا فهمه المعنى وهذا نحو قول الشاعر [قيس بن الخطيم]: [المنسرح]

نحن بما عندنا وأنت بما عنـ ـدك راضٍ والرأي مختلفُ

ونحن قول حسان: [الخفيف]

إنّ شرَخ الشباب والشّعَر الأسـ ـود ما لم يعاص كان جنونا

وسيبويه يكره هذا في الكلام، وقد شبه كثير من المفسرين هذه الآية بقوله تعالى: { { وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها } [الجمعة:11] وهي لا تشبهها، لأن "أو " قد فصلت التجارة عن اللهو وحسنت عود الضمير على أحدهما دون الآخر، والذهب تؤنث وتذكر والتأنيث أشهر، وروي أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا قد ذم الله كسب الذهب والفضة، فلو علمنا أي المال خير حتى نكسبه، فقال عمر: أنا أسأل لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فسأله، فقال " لسان ذاكر وقلب شاكر وزوجة تعين المؤمن على دينه" . وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما نزلت الآية " تباً للذهب تباً للفضة" ، فحينئذ أشفق أصحابه وقالوا ما تقدم، والفاء في قوله { فبشرهم } ،جواب كما في قوله { والذين } من معنى الشرط، وجاءت البشارة مع العذاب لما وقع التصريح بالعذاب وذلك أن البشارة تقيد بالخير والشر فإذا أطلقت لم تحمل إلا على الخير فقط، وقيل بل هي أبداً للخير فمتى قيدت بشر فإنما المعنى أقم لهم مقام البشارة عذاباً أليماً، وهذا نحو قول الشاعر [عمرو بن معديكرب]: [الوافر]

وخيل قد دلفت لها بخيلٍ تحيةَ بيْنِهمْ ضرْبٌ وجيــعُ

وقوله تعالى { يوم يحمى عليها } الآية: { يوم } ظرف والعامل فيه { أليم } وقرأ جمهور الناس " يحمى " بالياء بمعنى يحمى الوقود، وقرأ الحسن بن أبي الحسن "تحمى " بالتاء من فوق بمعنى تحمى النار والضمير في عليها عائد على الكنوز أو الأموال حسبما تقدم، وقرأ قوم "جباهم" بالإدغام وأشموها الضم حكاه أبو حاتم، وردت أحاديث كثيرة في معنى هذه الآية من الوعيد لكنها مفسرة في منع الزكاة فقط لا في كسب المال الحلال وحفظه، ويؤيد ذلك حال أصحابه وأموالهم رضي الله عنهم، فمن تلك الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم: "من ترك بعده كنزاً لم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعاً أقرع" الحديث. وأسند الطبري قال كان نعل سيف أبي هريرة من فضة فنهاه أبو ذر، وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ترك صفراء أو بيضاء كوي بها " ، وأسند إلى أبي أمامة الباهلي قال: " مات رجل من أهل الصفة فوجد في برده دينار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كية ثم مات آخر فوجد له ديناران فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيتان" .
قال القاضي أبو محمد: وهذا إما لأنهما كانا يعيشان من الصدقات وعندهما التبر وإما لأن هذا كان في صدر الإسلام، ثم قرر الشرع ضبط المال وأداء حقه، ولو كان ضبط المال ممنوعاً لكان حقه أن يخرج كله لا زكاته فقط، وليس في الأمة من يلزم هذا، وقوله { هذا ما كنزتم } إشارة إلى المال الذي كوي به، ويحتمل أن تكون إلى الفعل النازل بهم، أي هذا جزاء ما كنزتم، وقال ابن مسعود: والله لا يمس دينار ديناراً بل يمد الجلد حتى يكوى بكل دينار وبكل درهم، وقال الأحنف بن قيس: دخلت مسجد المدينة وإذا رجل خشن الهيئة رثها يطوف في الحلق وهو يقول: بشر أصحاب الكنوز بكي في جباهم وجنوبهم وظهورهم، ثم انطلق يتذمر وهو يقول وما عسى تصنع في قريش.