التفاسير

< >
عرض

فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ يٰأَيُّهَا ٱلْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا ٱلضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا ٱلْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ إِنَّ ٱللَّهَ يَجْزِي ٱلْمُتَصَدِّقِينَ
٨٨
قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ
٨٩
قَالُوۤاْ أَءِنَّكَ لأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَـٰذَا أَخِي قَدْ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْنَآ إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُحْسِنِينَ
٩٠
قَالُواْ تَٱللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ ٱللَّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ
٩١
قَالَ لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ ٱلْيَوْمَ يَغْفِرُ ٱللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ ٱلرَّاحِمِينَ
٩٢
ٱذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَـٰذَا فَأَلْقُوهُ عَلَىٰ وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ
٩٣
-يوسف

زاد المسير في علم التفسير

قوله تعالى: { فلما دخلوا عليه } في الكلام محذوف. تقديره: فخرجوا إِلى مصر، فدخلوا على يوسف، فـ { قالوا: يا أيها العزيز } وكانوا يسمُّون ملكهم بذلك، { مسَّنا وأهلنا الضرُّ } يعنون الفقر والحاجة { وجئنا ببضاعة مزجاة }.

وفي ماهية تلك البضاعة سبعة أقوال:

أحدها: أنها كانت دراهم، رواه العوفي عن ابن عباس.

والثاني: أنها كانت متاعاً رثّاً كالحبل والغرارة، رواه ابن أبي مليكة عن ابن عباس.

والثالث: كانت أَقِطاً قاله الحسن.

والرابع: كانت نعالاً وأدَماً، رواه جويبر عن الضحاك.

والخامس: كانت سويق المُقْل، روي عن الضحاك أيضاً.

والسادس: حبة الخضراء وصنوبر، قاله أبو صالح.

والسابع: كانت صوفاً وشيئاً من سمن، قاله عبد الله بن الحارث.

وفي المزجاة خمسة أقوال:

أحدها: أنها القليلة. روى العوفي عن ابن عباس قال: دراهم غير طائلة، وبه قال مجاهد، وابن إِسحاق، وابن قتيبة. قال الزجاج: تأويله في اللغة أن التزجية: الشيء الذي يدافَع به، يقال: فلان يزجي العيش، أي: يدفع بالقليل ويكتفي به، فالمعنى: جئنا ببضاعة إِنما ندافع بها ونتقوَّت، وليست مما يُتَّسع به، قال الشاعر:

الوَاهِبُ المائَةَ الهِجَانَ وَعَبْدَهَا عُوذَاً تُزَجِّي خَلْفَهَا أَطْفَالَهَا

أي: تدفع أطفالها.

والثاني: أنها الرديئة، رواه الضحاك عن ابن عباس. قال أبو عبيدة: إِنما قيل للرديئة: مزجاة، لأنها مردودة مدفوعة غير مقبولة ممن ينفقها، قال: وهي من الإِزجاء، والإِزجاء عند العرب: السَّوق والدفع، وأنشد:

لِيَبْكِ على مِلحانَ ضيفٌ مُدفَّع وَأَرْمَلَةٌ تُزْجِي مَعَ اللَّيْلِ أَرْمَلاَ

أي: تسوقه.

والثالث: الكاسدة، رواه الضحاك أيضاً عن ابن عباس.

والرابع: الرثّة، وهي المتاع الخَلَق، رواه ابن أبي مليكة عن ابن عباس.

والخامس: الناقصة، رواه أبو حصين عن عكرمة.

قوله تعالى: { فأوف لنا الكيل } أي: أتمه لنا ولا تنقصه لرداءة بضاعتنا.

قوله تعالى: { وتصدق علينا } فيه ثلاثة أقوال:

أحدها: تصدَّق علينا بما بين سعر الجياد والرديئة، قاله سعيد بن جبير، والسدي. قال ابن الأنباري: كان الذي سألوه من المسامحة يشبه التصدُّق، وليس به.

والثاني: بردِّ أخينا، قال ابن جريج. قال: وذلك أنهم كانوا أنبياء، والصَّدَقَةُ لا تحل للأنبياء.

والثالث: وتصدَّق علينا بالزيادة على حقِّنا، قاله ابن عيينة، وذهب إِلى أن الصدقة قد كانت تحل للأنبياء قبل نبينا صلى الله عليه وسلم، حكاه أبو سليمان الدمشقي، وأبو الحسن الماوردي، وأبو يعلى بن الفراء.

قوله تعالى: { إِن الله يجزي المتصدقين } أي: بالثواب. قال الضحاك: لم يقولوا: إِن الله يجزيك إِن تصدقت علينا، لأنهم لم يعلموا أنه مؤمن.

قوله تعالى: { هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه } في سبب قوله لهم هذا، ثلاثة أقوال:

أحدها: أنه أخرج إِليهم نسخة الكتاب الذي كتبوه على أنفسهم ببيعه من مالك بن ذعر، وفي آخر الكتاب: «وكتب يهوذا» فلما قرؤوا الكتاب اعترفوا بصحته وقالوا: هذا كتاب كتبناه على أنفسنا عند بيع عبدٍ كان لنا، فقال يوسف عند ذلك: إِنكم تستحقون العقوبة، وأمر بهم ليُقتَلوا، فقالوا: إِن كنت فاعلاً، فاذهب بأمتعتنا إِلى يعقوب، ثم أقبل يهوذا على بعض إِخوته، وقال: قد كان أبونا متصل الحزن لفقد واحد من ولده، فكيف به إِذا أُخبر بهُلكنا أجمعين؟ فرقَّ يوسف عند ذلك وكشف لهم أمره، وقال لهم هذا القول، رواه أبو صالح عن ابن عباس.

الثاني: أنهم لما قالوا: «مسَّنا وأهلنا الضرُّ» أدركته الرحمة، فقال لهم هذا، قاله ابن إِسحاق.

والثالث: أن يعقوب كتب إِليه كتاباً: إِن رددتَ ولدي، وإِلا دعوتُ عليك دعوةً تدرك السابعَ من ولدك، فبكى، وقال لهم هذا.

وفي «هل» قولان:

أحدهما: أنها استفهام لتعظيم القصة لا يراد به نفس الاستفهام. قال ابن الأنباري: والمعنى: ما أعظم ما ارتكبتم، وما أسمج ما آثرتم من قطيعة الرحم وتضييع الحق، وهذا مثل قول العربي: أتدري من عصيت؟ هل تعرف من عاديت؟ لا يرد بذلك الاستفهام، ولكن يريد تفظيع الأمر، قال الشاعر:

أترجو بنو مروان سمعي وطاعتي

لم يرد الاستفهام، إِنما أراد أن هذا غير مرجوٍّ عندهم. قال: ويجوز أن يكون المعنى: هل علمتم عقبى ما فعلتم بيوسف وأخيه من تسليم الله لهما من المكروه؟ وهذه الآية تصديق قوله: { لتنبِّئنَّهم بأمرهم }.

والثاني: أن «هل» بمعنى «قد» ذكره بعض أهل التفسير.

فان قيل: فالذي فعلوا بيوسف معلوم، فما الذي فعلوا بأخيه، وما سعَوا في حبسه ولا أرادوه؟

فالجواب من وجوه. أحدها: أنهم فرَّقوا بينه وبين يوسف، فنغَّصوا عيشه بذلك. والثاني: أنهم آذوْهُ بعد فُقْدِ يوسف. والثالث: أنهم سبّوه لما قُذف بسرقة الصاع.

وفي قوله: { إِذ أنتم جاهلون } أربعة أقوال:

أحدها: إِذ أنتم صبيان، قاله ابن عباس.

والثاني: مذنبون، قاله مقاتل.

والثالث: جاهلون بعقوق الأب، وقطع الرحم، وموافقة الهوى.

والرابع: جاهلون بما يؤول إِليه أمر يوسف، ذكرهما ابن الأنباري.

قوله تعالى: { أئنك لأنت يوسف } قرأ ابن كثير، وأبو جعفر، وابن محيصن: «إِنك» على الخبر، وقرأه آخرون بهمزتين محققتين، وأدخل بعضهم بينهما ألفاً.

واختلف المفسرون، هل عرفوه، أم شبّهوه؟ على قولين.

أحدهما: أنهم شبّهوه بيوسف، قاله ابن عباس في رواية.

والثاني: أنهم عرفوه، قاله ابن إِسحاق. وفي سبب معرفتهم له ثلاثة أقوال:

أحدها: أنه تبسم، فشبَّهوا ثناياه بثنايا يوسف، قاله الضحاك عن ابن عباس.

والثاني: أنه كانت له علامة كالشامة في قرنه، وكان ليعقوب مثلها، ولإِسحاق مثلها، ولسارة مثلها، فلما وضع التاج عن رأسه، عرفوه، رواه عطاء عن ابن عباس.

والثالث: أنه كشف الحجاب، فعرفوه، قاله ابن إِسحاق.

قوله تعالى: { قال أنا يوسف } قال ابن الأنباري: إِنما أظهر الاسم، ولم يقل: أنا هو، تعظيماً لما وقع به من ظلم إِخوته، فكأنه قال: أنا المظلوم المستحَلُّ منه، المراد قتلُه، فكفى ظهور الاسم من هذه المعاني، ولهذا قال: { وهذا أخي } وهم يعرفونه، وإِنما قصد: وهذا المظلوم كظلمي.

قوله تعالى: { قد منَّ الله علينا } فيه ثلاثة أقوال:

أحدها: بخير الدنيا والآخرة.

والثاني: بالجمع بعد الفرقة.

والثالث: بالسلامة ثم بالكرامة.

قوله تعالى: { إِنه من يتق ويصبر } قرأ ابن كثير في رواية قنبل: «من يتقي ويصبر» بياء في الوصل والوقف، وقرأ الباقون بغير ياء الحالين.

وفي معنى الكلام أربعة أقوال:

أحدها: من يتق الزنى ويصبر على البلاء.

والثاني: من يتق الزنى ويصبر على العزبة.

والثالث: من يتق الله ويصبر على المصائب، رويت هذه الأقوال عن ابن عباس.

والرابع: يتق معصية الله ويصبر على السجن، قاله مجاهد.

قوله تعالى: { فإن الله لا يضيع أجر المحسنين } أي: أجر مَنْ كان هذا حاله.

قوله تعالى: { لقد آثرك الله علينا } أي: اختارك وفضَّلك.

وبماذا عنوا أنه فضَّله فيه؟ أربعة أقوال:

أحدها: بالملك، قاله الضحاك عن ابن عباس.

والثاني: بالصبر، قاله أبو صالح عن ابن عباس.

والثالث: بالحلم والصفح عنا، ذكره أبو سليمان الدمشقي.

والرابع: بالعلم والعقل والحسن وسائر الفضائل التي أعطاه.

قوله تعالى: { وإِن كنا لخاطئين } قال ابن عباس: لمذنبين آثمين في أمرك. قال ابن الأنباري: ولهذا اختير «خاطئين» على «مخطئين» وإِن كان «أخطأَ» على ألسن الناس أكثر من «خطىء يخطأ» لأن معنى خطىء يخطأ، فهو خاطىء: آثم، ومعنى أخطأ يخطىء، فهو مخطىء: ترك الصواب ولم يأثم، قال الشاعر:

عِبَادُكَ يَخْطَأونَ وَأَنْتَ رَبٌّ بِكَفَّيْكَ المَنَايَا والحُتُومُ

أراد: يأثمون. قال: ويجوز أن يكون آثر «خاطئين» على «مخطئين» لموافقة رؤوس الآيات لأن «خاطئين» أشبه بما قبلها.

وذكر الفراء في معنى «إِن» قولين:

أحدهما: وقد كنا خاطئين. والثاني: وما كنا إِلا خاطئين.

قوله تعالى: { لا تثريب عليكم اليوم } قال أبو صالح عن ابن عباس: لا أعيِّركم بعد اليوم بهذا أبداً. قال ابن الأنباري: إِنما أشار إِلى ذلك اليوم، لأنه أول أوقات العفو، وسبيل العافي في مثله أن لا يراجع عقوبة. وقال ثعلب: قد ثرَّب فلان على فلان: إِذا عدَّد عليه ذنوبه. وقال ابن قتيبة: لا تعيير عليكم بعد هذا اليوم بما صنعتم، وأصل التثريب: الإِفساد، يقال: ثرَّب علينا: إِذا أفسد، وفي الحديث: "إِذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحدَّ، ولا يثرِّب" أي: لا يعيِّرها بالزنى، قال ابن عباس: جعلهم في حِلّ، وسأل الله المغفرة لهم. وقال السدي: لما عرّفهم نفسه، سألهم عن أبيه، فقالوا: ذهبت عيناه، فأعطاهم قميصَه، وقال: { اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيراً } وهذا القميص كان في قصبة من فضة معلَّقاً في عنق يوسف لما أُلقي في الجب، وكان من الجنة، وقد سبق ذكره [يوسف:18، 25، 26، 27، 28].

قوله تعالى: { يأت بصيراً } قال أبو عبيدة: يعود مبصراً.

فان قيل: من أين قطع على الغيب؟

فالجواب: أن ذلك كان بالوحي إِليه، قاله مجاهد.

قوله تعالى: { وائتوني بأهلكم أجمعين } قال الكلبي: كان أهله نحواً من سبعين إِنساناً.