التفاسير

< >
عرض

مَن كَفَرَ بِٱللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِٱلإِيمَانِ وَلَـٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ
١٠٦
ذٰلِكَ بِأَنَّهُمُ ٱسْتَحَبُّواْ ٱلْحَيَاةَ ٱلْدُّنْيَا عَلَىٰ ٱلآخِرَةِ وَأَنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَافِرِينَ
١٠٧
أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْغَافِلُونَ
١٠٨
لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ هُمُ ٱلْخَاسِرونَ
١٠٩
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ
١١٠
يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ
١١١
-النحل

زاد المسير في علم التفسير

قوله تعالى: { مَنْ كفر بالله من بعد إِيمانه } قال مقاتل: نزلت في عبد الله بن سعد بن أَبي سرح القرشي، ومِقْيَس بن صُبابة، وعبد الله بن أنس بن خَطَل، وطعمة بن أُبيرِق، وقيس بن الوليد بن المغيرة، وقيس بن الفاكه المخزومي.

فأما قوله تعالى: { إِلاَّ من أُكره } فاختلفوا فيمن نزل على أربعة أقوال.

أحدها: أنه نزل في عمار بن ياسر، أخذه المشركون فعذَّبوه، فأعطاهم ما أرادوا بلسانه، رواه مجاهد عن ابن عباس، وبه قال قتادة.

والثاني: أنه لما نزل قوله: { إِن الذين تَوَفَّاهُمُ الملائكة ظالمي أنفسهم... } إِلى آخر الآيتين اللتين في سورة النساء [96، 97] كتب بها المسلمون الذين بالمدينة إِلىَ من كان بمكة، فخرج ناس ممن أقرَّ بالإِسلام، فاتَّبعهم المشركون، فأدركوهم، فأكرهوهم حتى أعطوا الفتنة، فنزل { إِلاَّ من أُكره وقلبه مطمئن بالإِيمان }، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال مجاهد.

والثالث: أنه نزل في عياش بن أبي ربيعة، كان قد هاجر فحلفت أُمُّه ألاَّ تستظل ولا تشبع من طعام حتى يرجع، فرجع إِليها، فأكرهه المشركون حتى أعطاهم بعض ما يريدون، قاله ابن سيرين.

والرابع: أنه نزل في جبر، غلام ابن الحضرمي، كان يهودياً فأسلم، فضربه سيِّده حتى رجع إِلى اليهودية، قاله مقاتل. وأما قوله: { ولكنْ مَن شرح بالكفر صدراً } فقال مقاتل: هم النفر المسَمَّوْن في أول الآية.

فأما التفسير، فاختلف النحاة في قوله: { من كفر } وقوله: { ولكن من شرح } فقال الكوفيون: جوابهما جمعياً في قوله: { فعليهم غضب }، فقال البصريون: بل قوله: { من كفر } مرفوع بالرد على { الذين لا يؤمنون }. قال ابن الأنباري: ويجوز أن يكون خبرُ { مَن كفر } محذوفاً، لوضوح معناه، تقديره: من كفر بالله، فالله عليه غضبان.

قوله تعالى: { وقلبه مطمئن بالإِيمان } أي: ساكن إِليه راضٍ به. { ولكنْ مَن شرح بالكفر صدراً } قال قتادة: من أتاه بايثار واختيار. وقال ابن قتيبة: من فتح له صدره بالقبول. وقال أبو عبيدة: المعنى: من تابعته نفسه، وانبسط إِلى ذلك، يقال: ما ينشرح صدري بذلك، أي: ما يطيب. وجاء قوله: { فعليهم غضب } على معنى الجميع، لأن «مَنْ» تقع على الجميع.

فصل

الإِكراه على كلمة الكفر يبيح النطق بها. وفي الإِكراه المبيح لذلك عن أحمد روايتان:

إِحداهما: أنه يخاف على نفسه أو على بعض أعضائه التلف إِن لم يفعل ما أُمر به.

والثانية: أن التخويف لا يكون إِكراها حتى يُنَال بعذاب. وإِذ ثبت جواز «التَّقِيَة» فالأفضل ألاَّ يفعل، نص عليه أحمد، في أسير خُيِّر بين القتل وشرب الخمر، فقال: إِن صبر على القتل فله الشرف، وإِن لم يصبر، فله الرخصة، فظاهر هذا، الجوازُ. وروى عنه الأثرم أنه سئل عن التَّقيَّة في شرب الخمر فقال: إِنما التقية في القول. فظاهر هذا أنه لا يجوز له ذلك. فأما إِذا أُكره على الزنا، لم يجز له الفعل، ولم يصح إِكراهه، نص عليه أحمد. فان أُكره على الطلاق، لم يقع طلاقه، نص عليه أحمد، وهو قول مالك، والشافعي. وقال أبو حنيفة: يقع.

قوله تعالى: { ذلك بأنهم استحبَّوا الحياة الدنيا } في المشار إِليه بذلك قولان:

أحدهما: أنه الغضب والعذاب، قاله مقاتل. والثاني: أنه شرح الصدر للكفر. و«استحبُّوا» بمعنى: أحبوا الدنيا واختاروها على الآخرة.

قوله تعالى: { وأن الله } أي: وبأن الله لا يريد هدايتهم. وما بعد هذا قد سبق شرحه [البقرة:7، والنساء:155، والمائدة:67] إِلى قوله: { وأولئك هم الغافلون } ففيه قولان:

أحدهما: الغافلون عما يراد بهم، قاله ابن عباس. والثاني: عن الآخرة، قاله مقاتل.

قوله تعالى: { لا جرم } قد شرحناها في [هود:22].

قوله تعالى: { ثم إِنَّ ربك للذين هاجروا مِنْ بعد ما فُتنوا } اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال:

أحدها: أنها نزلت فيمن كان يُفْتَن بمكة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس.

والثاني: أن قوماً من المسلمين خرجوا للهجرة، فلحقهم المشركون فأعطَوهم الفتنة، فنزل فيهم { ومِنَ الناس من يقول آمنَّا بالله فإذا أُوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله } [العنكبوت 10]، فكتب المسلمون إِليهم بذلك، فخرجوا، وأدركهم المشركون فقاتلوهم حتى من نجا، وقُتِل من قتل، فنزلت فيهم هذه الآية، رواه عكرمة عن ابن عباس.

والثالث: أنها نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح، كان الشيطان قد أزلَّه حتى لحق بالكفار، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُقتَل يوم الفتح، فاستجار له عثمان بن عفان، فأجاره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا مروي عن ابن عباس، والحسن، وعكرمة، وفيه بُعد، لأن المشار إِليه وإِن كان [قد] عاد إِلى الإِسلام، فان الهجرة انقطعت بالفتح.

والرابع: أنها نزلت في عيَّاش بن أبي ربيعة، وأبي جندل بن سهيل عمرو، وعبد الله بن أَسيد الثقفي، قاله مقاتل.

فأما قوله تعالى: { من بعد ما فُتنوا } فقرأ الأكثرون: «فُتنوا» بضم الفاء وكسر التاء، على معنى: من بعد ما فتنهم المشركون عن دينهم. قال ابن عباس: فُتنوا بمعنى: عُذِّبوا. وقرأ عبد الله بن عامر: «فَتَنوا» بفتح الفاء والتاء، على معنى: من بعد ما فتنوا الناس عن دين الله، يشير إِلى من أسلم من المشركين. وقال أبو علي: من بعد ما فَتنوا أنفسهم باظهار ما أظهروا للتقية، لأن الرخصة لم تكن نزلت بعدُ.

قوله تعالى: { ثم جاهدوا } أي: قاتلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم { وصبروا } على الدين والجهاد. { إِن ربك من بعدها } في المكنيِّ عنها أربعة أقوال:

أحدها: الفتنة، وهو مذهب مقاتل. والثاني: الفَعلة التي فعلوها، قاله الزجاج.

والثالث: المجاهدة، والمهاجرة، والصبر. والرابع: المهاجرة. ذكرهما واللَّذَين قبلهما ابن الأنباري.

قوله تعالى: { يوم تأتي } قال الزجاج: هو منصوب على أحد شيئين، إِما على معنى: إِن ربك لغفور يوم تأتي، وإِما على معنى: اذكر يوم تأتي. ومعنى { تجادل عن نفسها } أي: عنها. والمراد: أن كل إِنسان يجادل عن نفسه. وقد روي عن عمر بن الخطاب أنه قال لكعب الأحبار: يا كعب خوِّفنا، فقال إِن لجهنم زفرةً ما يبقى ملَك مقرَّب ولا نبيّ مرسل إِلاَّ وقع جاثياً على ركبتيه، حتى إِن إِبراهيم خليل الرحمن ليدلي بالخلة فيقول: «يا رب أنا خليلك إِبراهيم، لا أسألك إِلاَّ نفسي»، وإِن تصديق ذلك في كتاب الله { يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها }. وقد شرحنا معنى «الجدال» في [هود:32].