التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَىٰ أَكْثَرُ ٱلنَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً
٨٩
وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ ٱلأَرْضِ يَنْبُوعاً
٩٠
أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ ٱلأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً
٩١
أَوْ تُسْقِطَ ٱلسَّمَآءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِٱللَّهِ وَٱلْمَلاۤئِكَةِ قَبِيلاً
٩٢
أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَىٰ فِي ٱلسَّمَآءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَراً رَّسُولاً
٩٣
-الإسراء

زاد المسير في علم التفسير

قوله تعالى: { ولقد صرَّفْنا للناس في هذا القرآن } قد فسَّرناه في هذه السورة [الاسراء: 41]، والمعنى: من كل مَثَل من الأمثال التي يكون بها الاعتبار { فأبى أكثر الناس } يعني أهل مكة { إِلا كُفوراً } أي: جحوداً للحق وإِنكاراً.

قوله تعالى: { وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجِّر لنا من الأرض يَنبوعا } سبب نزول هذه الآية وما يتبعها، "أن رؤساء قريش، كعُتبة، وشيبة، وأبي جهل، وعبد الله بن أبي أُمية، والنضر بن الحارث في آخرين، اجتمعوا عند الكعبة، فقال بعضهم لبعض: ابعثوا إِلى محمد فكلِّموه وخاصموه حتى تُعذَروا فيه، فبعثوا إِليه: إِن أشراف قومك قد اجتمعوا ليكلِّموك، فجاءهم سريعاً، وكان حريصاً على رشدهم، فقالوا: يا محمد، إِنا والله لا نَعلم رجلاً من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك، لقد شتمت الآباء، وعبت الدين، وسفَّهت الأحلام، وفرَّقت الجماعة، فإن كنتَ إِنما جئتَ بهذا لتطلب مالاً، جعلنا لك من أموالنا ما تكون به أكثرنا مالاً، وإِن كنتَ إِنما تطلب الشرف فينا، سوَّدناك علينا، وإِن كان هذا الرَّئِيُّ الذي يأتيك قد غلب عليك، بذلنا أموالنا في طلب الطِّب لك حتى نُبْرِئك منه، أو نُعْذَر فيك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إِن تقبلوا مِنِّي [ما جئتكم به]، فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإِن تردُّوه عليَّ، أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم. قالوا: يا محمد، فإن كنتَ غير قابل مِنّا ما عرضنا، فقد علمتَ أنه ليس من الناس أحد أضيقَ بلاداً ولا أشد عيشاً منا، سل لنا ربك يُسيِّر لنا هذه الجبال التي ضيِّقت علينا، ويُجري لنا أنهاراً، ويبعث من مضى من آبائنا، ولْيكن فيمن يبعث لنا منهم قصيّ بن كلاب، فإنه كان شيخاً صدوقاً، فنسألهم عما تقول: أحق هو؟ فإن فعلتَ صدَّقناك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بهذا بُعثتُ، وقد أبلغتكم ما أُرسلتُ به؛ قالوا: فَسَلْ ربَّك أن يبعثَ مَلَكاً يصدِّقك، وسله أن يجعل لك جِناناً، وكنوزاً، وقصوراً من ذهب وفضة تغنيك؛ قال: ما أنا بالذي يسأل ربه هذا؛ قالوا: فأسقط السماء [علينا] كما زعمت بأن ربَّك إِن شاء فعل؛ فقال: ذلك إِلى الله عز وجل؛ فقال قائل منهم: لن نؤمن لك حتى تأتيَ بالله والملائكة قبيلاً، وقال عبد الله بن أبي أُمية: لا أؤمن لك حتى تتخذ إِلى [السماء] سُلَّماً، وترقى فيه وأنا أنظر، وتأتي بنسخة منشورة معك، ونفرٍ من الملائكة يشهدون لك، فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم حزيناً لِمَا رأى من مباعدتهم إِياه" ، فأنزل الله تعالى: { وقالوا لن نؤمن لك... } الآيات، رواه عكرمة عن ابن عباس.

قوله تعالى: { حتى تفجر } قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر: «حتى تُفَجِّرَ» بضم التاء، وفتح الفاء، وتشديد الجيم مع الكسرة. وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: «حتى تَفْجُرَ» بفتح التاء، وتسكين الفاء، وضم الجيم مع التخفيف. فمن ثقَّل، أراد كثرة الانفجار من الينبوع، ومن خفَّف، فلأن الينبوع واحد. فأما الينبوع: فهو عين ينبع الماء منها؛ قال أبو عبيدة: هو يَفعول، من نبع الماء، أي: ظهر وفار.

قوله تعالى: { أو تكونَ لك جَنَّة } أي: بستان { فتفجر الأنهار } أي: تفتحها وتجريها { خلالها } أي: وسط تلك الجنة.

قوله تعالى: { أو تُسْقطَ السماء } وقرأ مجاهد، وأبو مجلز، وأبو رجاء، وحميد، والجحدري: «أو تَسقُط» بفتح التاء، ورفع القاف «السماءُ» بالرفع.

قوله تعالى: { كِسفاً } قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: «كِسْفاً» بتسكين السين في جميع القرآن إِلا في [الروم: 48] فإنهم حرَّكوا السين. وقرأ نافع، وأبو بكر عن عاصم بتحريك السين في الموضعين، وفي باقي القرآن بالتسكين. وقرأ ابن عامر هاهنا بفتح السين، وفي باقي القرآن بتسكينها. قال الزجاج: من قرأ «كِسَفاً» بفتح السين، جعلها جمع كِسفة، وهي: القطعة، ومن قرأ «كِسْفاً» بتسكين السين، فكأنهم قالوا: أَسْقِطها طبقاً علينا؛ واشتقاقه من كسفتُ الشيء: إِذا غطيَّته، يعنون: أسقطها علينا قطعة واحدة. وقال ابن الأنباري: من سكَّن قال: تأويله: ستراً وتغطية، من قولهم: قد انكسفت الشمس: إِذا غطاها ما يحول بين الناظرين إِليها وبين أنوارها.

قوله تعالى: { أو تأتيَ بالله والملائكة قبيلاً } فيه ثلاثة أقوال.

أحدها: عياناً، رواه الضحاك عن ابن عباس، وبه قال قتادة، وابن جريج، ومقاتل. وقال أبو عبيدة: معناه: مقابلة، أي: معاينة، وأنشد للأعشى:

نُصَالِحُكُمْ حَتَّى تَبُوؤُوا بِمِثْلِهَا كَصَرْخَةِ حُبْلَى يَسَّرَتْهَا قَبِيلُهَا

أي: قابِلَتُها. ويروى: وجَّهتْها [يعني بدل: يسرتها].

والثاني: كفيلاً أنك رسول الله، قاله أبو صالح عن ابن عباس، واختاره الفراء، قال: القبيل، والكفيل، والزعيم، سواء؛ تقول: قبلت، وكفلت، وزعمت.

والثالث: قبيلةً قبيلةً، كل قبيلة على حِدَتها، قاله الحسن، ومجاهد. فأما الزخرف، فالمراد به الذهب، وقد شرحنا أصل هذه الكلمة في [يونس: 24]، و«ترقى»: بمعنى «تصعد»؛ يقال: رَقِيتُ أرقَى رُقِيَّاً.

قوله تعالى: { حتى تُنَزِّل علينا كتاباً } قال ابن عباس: كتاباً من رب العالمين إِلى فلان بن فلان يصبح عند كل واحد منا يقرؤه.

قوله تعالى: { قل سبحان ربي } قرأ نافع، وعاصم، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: «قل». وقرأ ابن كثير، وابن عامر: «قال»، وكذلك هي في مصاحف أهل مكة والشام، { هل كنتُ إِلا بشراً رسولاً }، أي: أن هذه الأشياء ليست في قوى البشر.

فإن قيل: لِم اقتصر على حكاية «قالوا» من غير إِيضاح الرد؟

فالجواب: أنه لما خصهم بقوله تعالى: { قل لئن اجتمعت الإِنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن } فلم يكن في وسعهم، عجَّزهم، فكأنه يقول: قد أوضحت لكم بما سبق من الآيات ما يدل على نبوَّتي، ومن ذلك التحدِّي بمثل هذا القرآن، فأما عَنَتُكم فليس في وسعي، ولأنهم ألحُّوا عليه في هذه الأشياء، ولم يسألوه أن يسألَ ربه، فردَّ قولهم بكونه بشراً، فكفى ذلك في الردِّ.