التفاسير

< >
عرض

سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِٱلْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَآءً ظَاهِراً وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِّنْهُمْ أَحَداً
٢٢
وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَاْىءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذٰلِكَ غَداً
٢٣
إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ وَٱذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَىٰ أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هَـٰذَا رَشَداً
٢٤
-الكهف

زاد المسير في علم التفسير

قوله تعالى: { سيقولون ثلاثةُ } قال الزجاج: «ثلاثة» مرفوع بخبر الابتداء، المعنى: سيقول الذين تنازعوا في أمرهم [هم] ثلاثةٌ. وفي هؤلاء القائلين قولان.

أحدهما: أنهم نصارى نجران، ناظروا رسول الله صلى الله عليه وسلم في عِدَّة أهل الكهف، فقالت الملكيَّة: هم ثلاثة رابعهم كلبهم، وقالت اليعقوبية: هم خمسة سادسهم كلبهم، وقالت النسطورية: هم سبعة وثامنهم كلبهم، فنزلت هذه الآية، رواه الضحاك عن ابن عباس.

والثاني: أنهم أهل مدينتهم قبل ظهورهم عليهم، ذكره الماوردي.

قوله تعالى: { رجماً بالغيب } أي: ظنّاً غير يقين، قال زهير:

ومَا الحَرْبُ إِلاَّ ما علمْتُمْ وَذُقْتُمُ ومَا هُوَ عَنْهَا بالحَدِيثِ المُرَجَّمِ

فأما دخول الواو في قوله: { وثامنهم كلبهم } ولم تدخل فيما قبل هذا، ففيه أربعة أقوال.

أحدها: أن دخولها وخروجها واحد، قاله الزجاج.

والثاني: أن ظهور الواو في الجملة الثامنة دلالة على أنها مرادة في الجملتين المتقدمتين، فأعلم بذكرها هاهنا أنها مرادة فيما قبل، وإِنما حذفت تخفيفاً، ذكره أبو نصر في شرح «اللمع».

والثالث: أن دخولها يدل على انقطاع القصة، وأن الكلام قد تمَّ، ذكره الزجاج أيضاً، وهو قول مقاتل بن سليمان، فإن الواو تدل على تمام الكلام قبلها، واستئناف ما بعدها؛ قال الثعلبي: فهذه واو الحكم والتحقيق، كأن الله تعالى حكى اختلافهم، فتم الكلام عند قوله: { ويقولون سبعة }، ثم حكم أن ثامنهم كلبهم. وجاء في بعض التفسير أن المسلمين قالوا عند اختلاف النصارى: هم سبعة، فحقَّق الله قول المسلمين.

والرابع: أن العرب تعطف بالواو على السبعة، فيقولون: ستة، سبعة، وثمانية، لأن العقد عندهم سبعة، كقوله: { التائبون العابدون... } إِلى أن قال في الصفة الثامنة: { والناهون عن المنكر } [التوبة: 112]، وقوله في صفة الجنة: { { وفتحت أبوابها } [الزمر: 73] وفي صفة النار: { فتحت أبوابها } [الزمر: 71]، لأن أبواب النار سبعة، وأبواب الجنة ثمانية، ذكر هذا المعنى أبو إِسحاق الثعلبي.

وقد اختلف العلماء في عددهم على قولين.

أحدهما: أنهم كانوا سبعة، قاله ابن عباس.

والثاني: ثمانية، قاله ابن جريج، وابن إِسحاق. وقال ابن الأنباري: وقيل: معنى قوله: { وثامنهم كلبهم }: صاحب كلبهم، كما يقال: السخاء حاتم، والشِّعر زهير، أي: السخاء سخاء حاتم، والشِّعر شِعر زهير. وأما أسماؤهم، فقال هُشَيْم: مكسلمينا، ويمليخا، وطَرينوس، وسَدينوس، وسَرينوس، ونَواسس، ويرانوس، وفي التفسير خلاف في أسمائهم فلم أُطل به.

واختلفوا في كلبهم لمن كان على ثلاثة أقوال.

أحدها: أنه كان لراع مَرّوا به فتبعهم الراعي والكلب، قاله ابن عباس.

والثاني: أنه كان لهم يتصيدون عليه، قاله عبيد بن عمير.

والثالث: أنهم مَرّوا بكلب فتبعهم، فطردوه، فعاد، ففعلوا ذلك به مراراً، فقال لهم الكلب: ما تريدون مني؟! لا تخشوا جانبي أنا أُحِبُّ أَحِبَّاءَ الله، فناموا حتى أحرسَكم، قاله كعب الأحبار.

وفي اسم كلبهم أربعة أقوال.

أحدها: قطمير، قاله أبو صالح عن ابن عباس.

والثاني: اسمه الرقيم، وقد ذكرناه عن سعيد بن جبير.

والثالث: قطمور، قاله عبد الله بن كثير.

والرابع: حُمران، قاله شعيب الجبائي. وفي صفته ثلاثة أقوال.

أحدها: أحمر، حكاه الثوري.

والثاني: أصفر، حكاه ابن إِسحاق.

والثالث: أحمر الرأس، أسود الظهر، أبيض البطن، أبلق الذنب، ذكره ابن السائب.

قوله تعالى { ربّي أعلمُ بعدَّتهم } حرك الياء ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وأسكنها الباقون.

قوله تعالى: { ما يعلمهم إِلا قليل } أي: ما يعلم عددهم إِلا قليل من الناس. قال عطاء: يعني بالقليل: أهل الكتاب. قال ابن عباس: أنا من ذلك القليل، هم سبعة، إِن الله عدَّهم حتى انتهى إِلى السبعة.

قوله تعالى: { فلا تُمارِ فيهم إِلا مراءً ظاهراً } قال ابن عباس، وقتادة: لا تُمارِ أحداً، حسبك ما قصصتُ عليكَ من أمرهم. وقال ابن زيد: لا تُمارِ في عِدَّتهم إِلا مراءً ظاهراً أن تقول لهم: ليس كما تقولون، ليس كما تعلمون. وقيل: «إِلا مراءً ظاهراً» بحجة واضحة، حكاه الماوردي. والمراء في اللغة: الجدال؛ يقال: مارى يُماري مُماراة ومِراءً، أي: جادَل. قال ابن الأنباري: معنى الآية: لا تجادل إِلا جدال متيقِّنٍ عالِم بحقيقة الخبر، إِذ الله تعالى ألقى إِليك مالا يشوبه باطل. وتفسير المراء في اللغة: استخراج غضب المجادل، من قولهم: مَرَيْتُ الشاة: إِذا استخرجت لبنها.

قوله تعالى: { ولا تستفت فيهم } أي: في أصحاب الكهف، { منهم } قال ابن عباس: يعني: من أهل الكتاب. قال الفراء: أتاه فريقان من النصارى، نسطوري، ويعقوبي، فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن عددهم، فنُهي عن ذلك.

قوله تعالى: { ولا تقولَنَّ لشيء إِني فاعل ذلك غداً إِلا أن يشاء الله } سبب نزولها أن قريشاً سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذي القرنين، وعن الرُّوح، وعن أصحاب الكهف، فقال: غداً أخبركم بذلك، ولم يقل: إِن شاء الله، فأبطأ عليه جبريل خمسة عشر يوماً لتركه الاستثناء، فشقَّ ذلك عليه، ثم نزلت هذه الآية، قاله أبو صالح عن ابن عباس. ومعنى الكلام: ولا تقولن لشيء: إِني فاعل ذلك غداً، إِلا أن تقول: إِن شاء الله، فحذف القول.

قوله تعالى: { واذكر ربَّكَ إِذا نسيتَ } قال ابن الأنباري: معناه: واذكر ربَّكَ بعد تقضِّي النسيان، كما تقول: اذكر لعبد الله ـ إِذا صلّى ـ حاجتك، أي: بعد انقضاء الصلاة.

وللمفسرين في معنى الآية ثلاثة أقوال.

أحدها: أن المعنى: إِذا نسيتَ الاستثناء ثم ذكرتَ، فقل: إِن شاء الله، ولو كان بعد يوم أو شهر أو سنة، قاله سعيد بن جبير، والجمهور.

والثاني: أن معنى «إِذا نسيتَ»: إِذا غضبتَ، قاله عكرمة، قال ابن الأنباري: وليس ببعيد، لأن الغضب يُنتج النسيان.

والثالث: إِذا نسيتَ الشيء فاذكر الله ليذكِّرك إِياه، حكاه الماوردي.

فصل

وفائدة الاستثناء أن يخرج الحالف من الكذب إِذا لم يفعل ما حلف عليه، كقوله في قصة موسى: { { ستجدني إِن شاء الله صابراً } [الكهف: 70]، ولم يصبر، فسَلِم من الكذب لوجود الاستثناء في حقه. ولا تختلف الرواية عن أحمد أنه لا يصح الاستثناء في الطلاق والعتاق، وأنه إِذا قال: أنتِ طالق إِن شاء الله، وأنتَ حُرٌّ إِن شاء الله، أن ذلك يقع، وهو قول مالك؛ وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يقع شيء من ذلك. وأما اليمين بالله تعالى؛ فإن الاستثناء فيها يصح، بخلاف الطلاق، وكذلك الاستثناء في كل ما يكفِّر، كالظهار، والنذر، لأن الطلاق والعتاق لفظه لفظ إِيقاع، وإِذا علَّق به المشيئة، علمنا وجودها، لوجود لفظ الإِيقاع من جهته، بخلاف سائر الأيمان، لأنها ليست بموجبات للحكم، وإِنما تتعلق بأفعال مستقبلة.

وقد اختُلف في الوقت الذي يصح فيه الاستثناء على ثلاثة أقوال.

أحدها: أنه لا يصح الاستثناء إِلا موصولاً بالكلام، وقد روي عن أحمد نحو هذا، وبه قال أكثر الفقهاء.

والثاني: أنه يصح ما دام في المجلس، قاله الحسن وطاووس، وعن أحمد نحوه.

والثالث: أنه لو استثنى بعد سنة، جاز، قاله ابن عباس، ومجاهد، وسعيد ابن جبير، وأبو العالية. وقال ابن جرير الطبري: الصواب للإنسان أن يستثني ولو بعد حنثه في يمينه، فيقول: إِن شاء الله، ليخرج بذلك مما ألزمه اللهُ في هذه الآية، فيسقط عنه الحرج، فأما الكفَّارة فلا تسقط عنه بحال، إِلا أن يكون الاستثناء موصولاً بيمينه، ومن قال: له ثُنْياه ولو بعد سنة، أراد سقوطَ الحرج الذي يلزمه بترك الاسثتناء دون الكفَّارة.

قوله تعالى: { وقل عسى أن يهديَني ربِّي } قرأ نافع، وأبو عمرو: «يهديَني ربِّي» بياء في الوصل [دون] الوقف. وقرأ ابن كثير بياء في الحالين. وقرأ ابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي بغير ياء في الحالين.

وفي معنى الكلام قولان.

أحدهما: عسى أن يعطيني ربِّي من الآيات والدلالات على النبوَّه ما يكون أقرب في الرّشد وأدلَّ من قصّة أصحاب الكهف، ففعل الله له ذلك، وآتاه من عِلْم غيوب المرسَلين ما هو أوضح في الحُجَّة وأقرب إِلى الرَّشد من خبر أصحاب الكهف، هذا قول الزجاج.

والثاني: أن قريشاً لما سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخبرهم خبر أصحاب الكهف، قال: «غداً أُخبركم» كما شرحنا في سبب نزول الآية، فقال الله تعالى له: { وقل عسى أن يهديني ربي } أي: عسى أن يعرِّفني جواب مسائلكم قبل الوقت الذي حدَّدتُه لكم، ويعجِّل لي من جهته الرشاد، هذا قول ابن الأنباري.