قوله تعالى: { إِنَّ الله لا يَسْتَحيْي أنْ يَضْرِبَ مَثَلاً }
في سبب نزولها قولان.
أحدهما: أنه لما نزل قوله تعالى:
{ { ضرب مثل فاستمعوا له إِن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له } [الحج:73] ونزل قوله: { { كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً } } [العنكبوت:41] قالت اليهود: وما هذا من الأمثال؟! فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس والحسن وقتادة ومقاتل والفراء. والثاني: أنه لما ضرب الله المثلين المتقدمين، وهما قوله تعالى:
{ { كمثل الذي استوقد ناراً } [البقرة: 17] وقوله { { أو كصيب من السماء } [البقرة: 19] قال المنافقون: الله أجل وأعلى من أن يضرب هذه الأمثال، فنزلت هذه الآية، رواه السدي عن أشياخه. وروي عن الحسن ومجاهد نحوه. والحياء بالمد: الانقباض والاحتشام، غير أن صفات الحق عز وجل لا يطلع لها على ماهية، وإنما تمر كما جاءت. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:
"إن ربكم حييّ كريم" . وقيل: معنى لا يستحيي: لا يترك. وحكى ابن جرير الطبري عن بعض اللغويين أن معنى لا يستحيي: لا يخشى. ومثله: { { وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه } [الأحزاب: 37] أي: تستحيي منه. فالاستحياء والخشية ينوب كل واحد منهما عن الآخر. وقرأ مجاهد وابن محيصن: لا يستحي بياء واحدة، وهي لغة. قوله تعالى: { أن يضرب مثلاً }
قال ابن عباس: أن يذكر شبهاً، واعلم أن فائدة المثل أن يبين للمضروب له الأمر الذي ضرب لأجله، فينجلي غامضه.
قوله تعالى: { ما بَعوضَة }
ما زائدة، وهذا اختيار أبي عبيدة والزجاج والبصريين. وأنشدوا للنابغة:
قالت ألا ليتما هذا الحمام لنا إلى حمامتنا أو نصفه فقد
وذكر أَبو جعفر الطبري أن المعنى: ما بين بعوضة إِلى ما فوقها، ثم حذف ذكر:«بين» و«إِلى» إِذ كان في نصب البعوضة، ودخول الفاء في «ما» الثانية؛ دلالة عليهما، كما قالت العرب: مطرنا مازبالة فالثعلبية، وله عشرون ما ناقة فجملاً، وهي أحسن الناس ما قرناً فقدماً يعنون: ما بين قرنها إلى قدمها. وقال غيره: نصب البعوضة على البدل من المثل. وروى الأصمعي عن نافع:«بعوضةٌ» بالرفع، على إِضمار هو. والبعوضة: صفيرة البق.
قوله تعالى: { فما فوقها } فيه قولان.
أحدهما: أن معناه: فما فوقها في الكبر، قاله ابن عباس، وقتادة، وابن جريج، والفراء.
والثاني: فما فوقها في الصغر، فيكون معناه: فما دونها، قاله أبو عبيدة.
قال ابن قتيبة: وقد يكون الفوق بمعنى: دون، وهو من الأضداد، ومثله: الجون؛ يقال للأسود والأبيض. والصريم: الصبح، والليل. والسَّدفة: الظلمة، والضوء، والحلل: الصغير، والكبير. والناهل: العطشان، والريان. والمائل: القائم، واللاطىء بالأرض. والصارخ: المغيث، والمستغيث. والهاجد: المصلي بالليل، والنائم. والرهوة: الارتفاع، والانحدار. والتلعة: ما ارتفع من الارض، وما انهبط من الارض. والظن: يقين، وشك. والاقراء: الحيض، والاطهار. والمفرع في الجبل: المصعد، والمنحدر. والوراء: خلفاً وقدّاماً. وأسررت الشيء: أخفيته، وأعلنته. وأخفيت الشىء: أظهرته وكتمته. ورتوت الشيء: شددته، وأرخيته. وشعبت الشيء: جمعته، وفرقته. وبُعت الشيء بمعنى: بعته، واشتريته. وشريت الشيء اشتريته. وبعته. والحي خلوف: غيب ومتخلفون.
واختلفوا في قوله: { يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً } هل هو من تمام قول الذين قالوا:
{ { ماذا أراد الله بهذا مثلاً } [البقرة: 26] أو هو مبتدأ من كلام الله عز وجل؟ على قولين. أحدهما: أنه تمام الكلام الذي قبله، قاله الفراء، وابن قتيبة. قال الفراء: كأنهم قالوا: ماذا اراد الله بمثل لا يعرفه كل أحد، يضل به هذا، ويهدي به هذا؟! ثم استؤنف الكلام والخبر عن الله فقال الله:
{ وما يضل به إِلا الفاسقين } [البقرة:26] والثاني: أنه مبتدأ من قول الله تعالى، قاله السدي ومقاتل.
فأما الفسق؛ فهو في اللغة: الخروج، يقال: فسقت الرطبة: إذا خرجت من قشرها. فالفاسق: الخارج عن طاعة الله إِلى معصيته.
وفي المراد بالفاسقين هاهنا، ثلاثة أقوال. أحدها: أنهم اليهود، قاله ابن عباس ومقاتل. والثاني: المنافقون، قاله أبو العالية والسدي. والثالث: جميع الكفار.