التفاسير

< >
عرض

وَتَقَطَّعُوۤاْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ
٩٣
فَمَن يَعْمَلْ مِنَ ٱلصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ
٩٤
وَحَرَامٌ عَلَىٰ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَآ أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ
٩٥
حَتَّىٰ إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ
٩٦
وَٱقْتَرَبَ ٱلْوَعْدُ ٱلْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يٰوَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَـٰذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ
٩٧
إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ
٩٨
لَوْ كَانَ هَـٰؤُلاۤءِ آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ
٩٩
لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ
١٠٠
-الأنبياء

زاد المسير في علم التفسير

قوله تعالى: { وحرام على قرية } قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحفص عن عاصم: «وحرام» بألف. وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: «وحِرْم» بكسر الحاء من غير ألف، وهما لغتان. يقال: حِرْم وحرام. وقرأ معاذ القارىء، وأبو المتوكل، وأبو عمران الجوني: «حَرْمٌ» بفتح الحاء وسكون الراء من غير ألف والميم مرفوعة منوَّنة. وقرأ سعيد بن جبير: «وحَرْمَ» بفتح الحاء وسكون الراء وفتح الميم من غير تنوين ولا ألف. وقرأ أبو الجوزاء، وعكرمة، والضحاك: «وحَرِمَ» بفتح الحاء والميم وكسر الراء من غير تنوين ولا ألف. وقرأ سعيد بن المسيب، وأبو مجلز، وأبو رجاء: «وحَرُمَ» بفتح الحاء وضم الراء ونصب الميم من غير ألف.

وفي معنى قوله تعالى: «وحرام» قولان.

أحدهما: واجب، قاله ابن عباس، وأنشدوا في معناه:

فَإنَّ حَرَاماً لاَ أَرَى الدَّهْرَ بَاكِياً عَلَى شَجْوِه إِلاَّ بَكَيْتُ على عَمْرو

أي: واجب.

والثاني: أنه بمعنى العزم، قاله سعيد بن جبير. وقال عطاء: حتم من الله. والمراد بالقرية: أهلها.

ثم في معنى الآية أربعة أقوال.

أحدها: واجب على قرية أهلكناها أنهم لا يتوبون، رواه عكرمة عن ابن عباس.

والثاني: واجب عليها أنها إِذا أُهلكت لا ترجع إِلى دنياها، هذا قول قتادة؛ وقد روي عن ابن عباس نحوه.

والثالث: أن «لا» زائدة؛ والمعنى: حرام على قرية مهلكة أنهم يرجعون إِلى الدنيا، قاله ابن جريج، وابن قتيبة في آخرين.

والرابع: أن الكلام متعلق بما قبله، لأنه لما قال: «فلا كفران لسعيه» أعلمنا أنه قد حرَّم قبول أعمال الكفار؛ فمعنى الآية: وحرام على قرية أهلكناها أن يُتقبَّل منهم عمل، لأنهم لا يتوبون، هذا قول الزجاج.

فإن قيل: كيف يصح أن يحرم على الإِنسان ما ليس من فعله، ورجوعهم بعد الموت ليس إِليهم؟

فالجواب: أن المعنى: مُنعوا من ذلك، كما يُمنع الإِنسان من الحرام وإِن قدر عليه، فكان التشبيه بالتحريم للحالتين من حيث المنع.

قوله تعالى: { حتى إِذا فُتِحَتْ يأجوجُ ومأجوجُ } وقرأ ابن عامر: «فُتِّحت» بالتشديد، والمعنى: فُتح الردم عنهم { وهم من كل حَدب } قال ابن قتيبة: من كل نشَز من الأرض وأكَمة { يَنْسِلون } من النَّسَلان: وهو مقاربة الخطو مع الإِسراع، كمشي الذئب إِذا بادر، والعَسَلان مثله. وقال الزجاج: الحَدَبُ: كل أَكَمَة، و«يَنْسِلون»: يُسرعون. وقرأ أبو رجاء العطاردي، وعاصم الجحدري: «يَنْسُلون» بضم السين.

وفي قوله تعالى: { وهم } قولان.

أحدهما: أنه إِشارة إِلى يأجوج ومأجوج، قاله الجمهور.

والثاني: إِلى جميع الناس؛ فالمعنى: وهم يُحشَرون إِلى الموقف، قاله مجاهد. والأول أصح.

فإن قيل: أين جواب «حتى»؟ ففيه قولان.

أحدهما: أنه قوله تعالى: { واقترب الوعد الحق } والواو في قوله تعالى: «واقترب» زائدة، قاله الفراء. قال: ومثله { حتى إِذا جاؤوها وفتحت أبوابها } [الزمر: 73]، وقوله تعالى: { فلما أسلما وتله للجبين، وناديناه } [الصافات: 103، 104]، المعنى: نادينا. وقال عبد الله بن مسعود: الساعة من الناس بعد يأجوج ومأجوج، كالحامل المتمّ، لا يدري أهلها متى تفجؤُهم بولدها ليلاً أو نهاراً.

والثاني: أنه قول محذوف في قوله: { يا ويلنا }، فالمعنى: حتى إِذا فُتحت يأجوج ومأجوج واقترب الوعد، قالوا: يا ويلنا. قال الزجاج: هذا قول البصريين. فأما { الوعد الحق } فهو القيامة.

قوله تعالى: { فإذا هي } في «هي» أربعة أقوال.

أحدها: أن «هي» كناية عن الأبصار، والأبصار تفسير لها، كقول الشاعر:

لَعَمْرُو أبِيها لا تَقُولُ ظَعِينَتي أَلاَ فَرَّعَنِّي مَالكُ بن أبِي كَعْبِ

فذكر الظعينة، وقد كنى عنها في «لعمرو أبيها». والثاني: أن «هي» [ضمير فصل، و] عمادٌٌ، ويصلح في موضعها «هو»، ومثله قوله: { إِنه أنا الله } [النمل: 9]، وقوله: { فإنها لا تعمى الأبصار } [الحج: 46]، وأنشدوا:

بثوبٍ وَدينارٍ وشاةٍ ودرهمٍ فهَل هو مَرفوع بما هَاهُنا رأْس

ذكرهما الفراء.

والثالث: أن يكون تمام الكلام عند قوله: «هي» على معنى: فإذا هي بارزة واقفة، يعني: من قربها، كأنها آتية حاضرة، ثم ابتدأ فقال: { شاخصة }، ذكره الثعلبي.

والرابع: أن «هي» كناية عن القصة، والمعنى: القصة أن أبصارهم شاخصة في ذلك اليوم، ذكره علي بن أحمد النيسابوري. قال المفسرون: تشخص أبصار الكفار من هول يوم القيامة، ويقولون: { يا ويلنا قد كنا } أي: في الدنيا { في غفلة من هذا } أي: عن هذا { بل كنا ظالمين } أنفسنا بكفرنا ومعاصينا. ثم خاطب أهل مكة، فقال: { إِنكم وما تعبدون من دون الله } يعني: الأصنام { حَصَبُ جهنم } وقرأ علي بن أبي طالب، وأبو العالية، وعمر بن عبد العزيز: «حَطَب» بالطاء. وقرأ ابن عباس، وعائشة، وابن السميفع: «حَضَب» بالضاد المعجمة المفتوحة. وقرأ عروة، وعكرمة، وابن يعمر، وابن أبي عبلة: «حَضْب جهنم» بإسكان الضاد المعجمة. وقرأ أبو المتوكل، وأبو حيوة، ومعاذ القارىء: «حِضْب» بكسر الحاء مع تسكين الضاد المعجمة. وقرأ أبو مجلز، وأبو رجاء، وابن محيصن: «حَصْب» بفتح الحاء وبصاد غير معجمة ساكنة. قال الزجاج: من قرأ «حصَب جهنم» فمعناه: كلُّ ما يرمى به فيها، ومن قرأ «حطب» فمعناه: ما تُوقَد به، ومن قرأ بالضاد المعجمة، فمعناه: ما تهيج به النار وتُذْكى به. قال ابن قتيبة: الحصَب: ما أُلقي فيها، وأصله من الحَصْباء، وهو: الحصى، يقال: حصبتُ فلاناً: إِذا رميتَه، حَصْباً، بتسكين الصاد، وما رَمَيْتَ به فهو حَصَب، بفتح الصاد.

قوله تعالى: { أنتم } يعني: العابدين والمعبودين { لها واردون } أي: داخلون. { لو كان هؤلاء } يعني: الأصنام { آلهةً } على الحقيقة { ما وردوها } فيه ثلاثة أقوال.

أحدها: أنه إِشارة إِلى الأصنام، والمعنى: لو كانوا آلهةً ما دخلوا النار.

والثاني: أنه إِشارة إِلى عابديها، فالمعنى: لو كانت الأصنام آلهة، منعت عابديها دخول النار.

والثالث: أنه إِشارة إِلى الآلهة وعابديها، بدليل قوله تعالى: { وكلٌّ فيها خالدون } يعني: العابد والمعبود.

قوله تعالى: { لهم فيها زفير } قد شرحنا معنى الزفير في [هود: 106]. وفي علَّة كونهم لا يسمعون ثلاثة أقوال.

أحدها: أنه يوضع في مسامعهم مسامير من نار، ثم يُقذَفون في توابيت من نار مقفلة عليهم، رواه أبو أُمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث طويل. وقال ابن مسعود: إِذا بقي في النار مَنْ يخلَّد فيها جُعلوا في توابيت من نار، ثم جعلت تلك التوابيت في توابيت أخرى، فلا يسمعون شيئاً، ولا يرى أحدهم أن في النار أحداً يعذَّب غيرُه.

والثاني: أن السماع أُنْسٌ، والله لا يحب أن يؤنسَهم، قاله عون بن عمارة.

والثالث: إِنما لم يسمعوا لشدة غليان جهنم، قاله أبو سليمان الدمشقي.