التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱرْكَعُواْ وَٱسْجُدُواْ وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ وَٱفْعَلُواْ ٱلْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
٧٧
وَجَاهِدُوا فِي ٱللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ ٱجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي ٱلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ ٱلْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَـٰذَا لِيَكُونَ ٱلرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَـاةَ وَٱعْتَصِمُواْ بِٱللَّهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ ٱلْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ ٱلنَّصِيرُ
٧٨
-الحج

زاد المسير في علم التفسير

قوله تعالى: { اركعوا واسجدوا } قال المفسرون: المراد: صلُّوا، لأن الصلاة لا تكون إِلا بالركوع والسجود، { واعبُدوا ربَّكم } أي: وحِّدوه { وافعلوا الخير } يريد: أبواب المعروف { لعلَّكم تُفْلِحون } أي: لكي تسعدوا وتبقوا في الجنة.

فصل

لم يختلف أهل العلم في السجدة الأولى من (الحج) واختلفوا في هذه السجدة الأخيرة؛ فروي عن عمر، وابن عمر، وعمَّار، وأبي الدرداء، وأبي موسى، وابن عباس: أنهم قالوا: في (الحج) سجدتان، وقالوا: فضّلت هذه السورة على غيرها بسجدتين، وبهذا قال أصحابنا، وهو مذهب الشافعي رضي الله عنه. وروي عن ابن عباس أنه قال: في (الحج) سجدة، وبهذا قال الحسن، وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، وإِبراهيم، وجابر بن زيد، وأبو حنيفة وأصحابه، ومالك؛ ويدل على الأول ما "روى عقبة بن عامر، قال: قلت: يا رسول الله أفي (الحج) سجدتان؟ قال: نعم، ومن لم يسجدهما فلا يقرأهما" .

فصل

واختلف العلماء في عدد سجود القرآن، فروي عن أحمد روايتان، إِحداهما: أنها أربع عشرة سجدة. وبه قال الشافعي، والثانية: أنها خمس عشرة، فزاد سجدة [ص: 24]. وقال أبو حنيفة: هي أربع عشرة، فأخرج التي في آخر (الحج) وأبدل منها سجدة [ص: 24].

فصل

وسجود التلاوة سُنَّة، وقال أبو حنيفة: واجب. ولا يصح سجود التلاوة إِلا بتكبيرة الإِحرام والسلام، خلافاً لأصحاب أبي حنيفة وبعض أصحاب الشافعي. ولا يجزىء الركوع عن سجود التلاوة، وقال أبو حنيفة: يجزىء. ولا يسجد المستمع إِذا لم يسجد التالي، نص عليه أحمد رضي الله عنه. وتكره قراءة السجدة في صلاة الإِخفات، خلافاً للشافعي.

قوله تعالى: { وجاهِدوا في الله } في هذا الجهاد ثلاثة أقوال.

أحدها: أنه فِعل جميع الطاعات، هذا قول الأكثرين.

والثاني: أنه جهاد الكفار، قاله الضحاك.

والثالث: أنه جهاد النفس والهوى، قاله عبد الله بن المبارك.

فأما حق الجهاد، ففيه ثلاثة أقوال.

أحدها: أنَّه الجِدُّ في المجاهدة، واستيفاء الإِمكان فيها.

والثاني: أنه إِخلاص النِّيَّة لله عز وجل.

والثالث: أنه فِعل ما فيه وفاء لحق الله عز وجل.

فصل

وقد زعم قوم أن هذه الآية منسوخة، واختلفوا في ناسخها على قولين.

أحدهما: قوله: { لا يكلف الله نفساً إِلا وسعها } [البقرة: 286].

والثاني: قوله: { { فاتقوا الله ما استطعتم } [التغابن: 16]. وقال آخرون: بل هي مُحْكَمَةٌ، ويؤكده القولان الأولان في تفسير حق الجهاد، وهو الأصح، لأن الله تعالى لا يكلِّف نفساً إِلا وسعها.

قوله تعالى: { هو اجتباكم } أي: اختاركم واصطفاكم لدينه. والحرج: الضِّيق، فما من شيء وقع الإِنسان فيه إِلا وجد له في الشرع مَخرجاً بتوبة أو كفارة أو انتقالٍ إِلى رخصة ونحو ذلك. وروي عن ابن عباس أنه قال: الحرج: ما كان على بني إِسرائيل من الإِصر والشدائد، وضعه الله عن هذه الأمة.

قوله تعالى: { مِلَّةَ أبيكم } قال الفراء: المعنى: وسّع عليكم كملَّة أبيكم، فاذا ألقيتَ الكاف نصبتَ، ويجوز النصب على معنى الأمر بها، لأن أول الكلام أمر، وهو قوله: «اركعوا واسجدوا» والزموا ملَّة أبيكم.

فإن قيل: هذا الخطاب للمسلمين، وليس إِبراهيم أباً لكُلِّهم.

فالجواب: أنه إِن كان خطاباً عامّاً للمسلمين، فهو كالأب لهم، لأن حرمته وحقَّه عليهم كحق الولد، وإِن كان خطاباً للعرب خاصة، فإبراهيم أبو العرب قاطبة، هذا قول المفسرين. والذي يقع لي أن الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن إِبراهيم أبوه، وأُمَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم داخلة فيما خوطب به رسول الله.

قوله تعالى: { هو سمَّاكم المسلمين } في المشار إِليه قولان.

أحدهما: أنه الله عز وجل، قاله ابن عباس، ومجاهد، والجمهور؛ فعلى هذا في قوله: { مِنْ قَبْلُ } قولان. أحدهما: من قبل إِنزال القرآن سمَّاكم بهذا في الكتب التي أنزلها. والثاني: «مِنْ قَبْلُ» أي: في أُمّ الكتاب، وقوله: { وفي هذا } أي: في القرآن.

والثاني: أنه إِبراهيم عليه السلام حين قال: { ومِنْ ذُرَّيِّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ } [البقرة: 128]؛ فالمعنى: من قَبْل هذا الوقت، وذلك في زمان إِبراهيم عليه السلام، وفي هذا الوقت حين قال: { ومن ذريتنا أمة مسلمة }، هذا قول ابن زيد.

قوله تعالى: { ليكونَ الرسولُ } المعنى: اجتباكم وسمَّاكم ليكون الرسول، يعني محمداً صلى الله عليه وسلم { شهيداً عليكم } يوم القيامة أنه قد بلَّغكم؛ وقد شرحنا هذا المعنى في [البقرة: 143] إِلى قوله: { وآتوا الزكاة }.

قوله تعالى: { واعتصموا بالله } قال ابن عباس: سَلُوه أن يَعْصِمكم من كل ما يُسخط ويُكْرَه. وقال الحسن: تمسَّكوا بدين الله. وما بعد هذا مشروح في [الأنفال: 40].