قوله تعالى: {فلمَّا قضى موسى الأجَلَ} روى ابن عباس رضي الله عنهما
"عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل: أيّ الأجلين قضى موسى، قال: أوفاهما وأطيبهما" . قال مجاهد: مكث بعد قضاء الأجل عندهم عشراً أُخَر. وقال وهب بن منبِّه: أقام عندهم بعد أن أدخل عليه امرأته سنين، وقد سبق تفسير هذه الآية [طه:10] إِلى قوله: {أو جَذْوَةٍ} وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، والكسائي: {جِذْوَةٍ} بكسر الجيم. وقرأ عاصم بفتحها. وقرأ حمزة، وخلف، والوليد عن ابن عامر بضمها، وكلُّها لغات. قال ابن عباس: الجذوة: قطعة حطب فيها نار، وقال أبو عبيدة: قطعة غليظة من الحطب ليس فيها لَهب، وهي مثل الجِذْمَة من أصل الشجرة، قال ابن مقبل:باتَتْ حَوَاطِبُ لَيْلَى يَلْتَمِسْنَ لَهَا جَزْلَ الجِذَا غيرَ خَوَّارٍ وَلا دَعِرِ
والدَّعِر: الذي قد نَخِر، ومنه رجل داعر، أي: فاسد. قوله تعالى: {نُودِيَ مِنْ شاطىء الواد} وهو: جانبه {الأيمنِ} وهو الذي عن يمين موسى {في البُقْعة} وهي القطعة من الأرض {المباركةِ} بتكليم الله موسى فيها {مِنَ الشجرة} أي: من ناحيتها. وفي تلك الشجرة قولان.
أحدهما: [أنها] شجرة العنَّاب، قاله ابن عباس.
والثاني: عوسجة، قاله قتادة، وابن السائب، ومقاتل. وما بعد هذا قد سبق بيانه [النمل:10] إِلى قوله: {إِنك من الآمنين} أي: من أن ينالك مكروه.
قوله تعالى: {أُسْلُك يدك} أي: أَدْخِلها، {واضمُمْ إِليكَ جناحك} قد فسرنا الجناح في [طه:22] إِلا ان بعض المفسرين خالف بين تفسير اللفظين، فشرحناه. وقال ابن زيد: جناحه: الذِّراع والعضُد والكفُّ. وقال الزجاج: الجناح هاهنا: العضُد، ويقال لليد كلِّها: جناح. وحكى ابن الأنباري عن الفراء أنه قال: الجناح هاهنا: العصا. قال ابن الأنباري: الجناح للانسان مشبَّه بالجناح للطائر، ففي حال تُشبَِّه العربُ رِجْلي الإِنسان بجناحَي الطائر، فيقولون: قد مضى فلان طائراً في جناحيه، يعنون ساعياً على قدميه، وفي حال يجعلون العضد منه بمنزلة جناحي الطائر، كقوله: {واضمُمْ يدك إِلى جناحك}، وفي حال يجعلون العصا بمنزلة الجناح، لأن الإِنسان يدفع بها عن نفسه كدفع الطائر عن نفسه بجناحه، كقوله: {واضمُمْ إِليك جناحك مِنْ الرَّهْب}، وإِنما يوقع الجناح على هذه الأشياء تشبيهاً واستعارة، كما يقال: قد قُصَّ جناح الإِنسان، وقد قُطعت يده ورجله: إِذا وقعت به جائحة أبطلت تصرُّفه؛ ويقول الرجل للرجل: أنت يدي ورِجْلي، أي: أنت مَنْ به أُصِلُ إِلى محابِّي، قال جرير:
سَأَشْكُرُ أَنْ رَدَدْتَ إِليَّ رِيشي وأَنْبَتَّ القَوادمَ في جَناحِي
وقالت امرأة من العرب ترثي زوجها الأغرّ:يا عِصمتي في النَّائبات ويا رُكْني [الأغرّ] ويا يَدي اليمنى
لا صُنْتُ وجهاً كنتُ صَائنه أبداً ووجهك في الثرى يَبْلى
فأمَّا الرَّهَب، فقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو: {مِنَ الرَّهَب} بفتح الراء والهاء. وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: {من الرُّهْب} بضم الراء وسكون الهاء. وقرأ حفص [وأبان] عن عاصم: {من الرَّهْب} بفتح الراء وسكون الهاء [وهي قراءة ابن مسعود، وابن السميفع]. وقرأ أُبيّ بن كعب، والحسن، وقتادة، بضم الراء والهاء. قال الزجاج: الرُّهْب، والرَّهَب بمعنى واحد، مثل الرُّشْد، والرَّشَد. وقال أبو عبيدة: الرُّهْب والرَّهْبة بمعنى الخوف والفَرَق. وقال ابن الأنباري: الرَّهْبُ، والرُّهُب، والرَّهَب، مثل الشَّغْل، والشُّغْل، والشَّغَل، والبَخْل، والبُخُل، والبَخَل، وتلك لغات ترجع إلى معنى الخوف والفَرَق. وللمفسرين في معنى هذه الآية ثلاثة أقوال.
أحدها: أنَّه لمَّا هرب من الحيَّة أمره الله أن يَضُم إِليه جناحه ليذهب عنه الفزع. قال ابن عباس: المعنى: اضمم يدك إِلى صدرك من الخوف ولا خوف عليك. وقال مجاهد: كلٌّ مَنْ فَزِع فضَمَّ جناحه إِليه ذهب عنه الفَزَع.
والثاني: أنَّه لمَّا هاله بياض يده وشعاعها، أُمِر أن يُدْخِلها في جيبه، فعادت إلى حالتها الأولى.
والثالث: أن معنى الكلام: سَكِّن رَوْعَك، وثَبِّت جأْشَك. قال أبو علي: ليس يراد به الضَّمُّ بين الشيئين، إِنما أُمِر بالعزم [على ما أُمِر به] والجدِّ فيه، ومثله: اشدد حيازيمك للموت.
قوله تعالى: {فذانك} قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: {فذانِّك} بالتشديد. وقرأ الباقون: {فذانك} بالتخفيف. قال الزجاج: التشديد تثنية «ذلك»، والتخفيف تثنية «ذاك»، فجعل اللام في «ذلك» بدلاً من تشديد النون في «ذانِّك»، {بُرْهانان} أي: بيانان اثنان. قال المفسرون: «فذانك» يعني العصا واليد، حُجَّتان من الله لموسى على صِدْقه، {إِلى فرعون} أي: أرسلنا بهاتين الآيتين إِلى فرعون. وقد سبق تفسير ما بعد هذا [الشعراء:14] إِلى قوله: {هو أَفْصَحُ مِنِّي لساناً} أي: أحسنُ بياناً، لأنَّ موسى كان في لسانه أثر الجمرة التي تناولها، {فأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً} قرأ الأكثرون: {رِدْءاً} بسكون الدال وبعدها همزة. وقرأ أبو جعفر: {رِدا} بفتح الدال وألف بعدها من غير تنوين ولا همز؛ وقرأ نافع كذلك، إِلا أنه نوَّن. وقال الزجاج: الرِّدْءُ: العون، يقال: ردأتُه أردؤه رِدْءاً: إِذا أعنتَه.
قوله تعالى: {يُصَدِّقُني} قرأ عاصم، وحمزة: {يُصَدِّقُني} بضم القاف. وقرأ الباقون بسكون القاف. قال الزجاج: من جزم {يُصَدِّقْني} فعلى جواب المسألة: أَرْسِلْهُ يُصَدِّقْني؛ ومن رفع، فالمعنى: رِدْءاً مُصَدِّقاً لي. وأكثر المفسرين على أنه أشار بقوله: {يُصَدِّقُني} إِلى هارون؛ وقال مقاتل بن سليمان: لكي يُصَدِّقني فرعون.
قوله تعالى: {سنَشُدُّ عَضُدكَ بأخيك} قال الزجاج: المعنى: سنُعينك بأخيك، ولفظ العَضُد على جهة المثل، لأن اليد قِوامُها عَضُدُها، وكل مُعين فهو عَضُد، {ونَجْعَلُ لكما سُلطاناً} أي: حُجَّة بيِّنة. وقيل للزَّيت: السَّليط، لانه يُستضاء به؛ والسُّلطان: أبْيَن الحُجج.
قوله تعالى: {فلا يَصِلُونَ إِليكما} أي: بقتل ولا أذى. وفي قوله {بآياتنا} ثلاثة أقوال.
أحدها: أن المعنى: تمتنعان منهم بآياتنا وحُججنا فلا يَصِلُون إِليكما.
والثاني: أنَّه متعلِّق بما بعده، فالمعنى: بآياتنا أنتما ومَنْ اتبَّعكما الغالبون، أي: تَغْلِبُون بآياتنا.
والثالث: أنَّ في الكلام تقديماً وتأخيراً، تقديره: ونجعل لكما سُلطاناً بآياتنا، فلا يَصِلُون إِليكما.