التفاسير

< >
عرض

مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً
٢٣
لِّيَجْزِيَ ٱللَّهُ ٱلصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ ٱلْمُنَافِقِينَ إِن شَآءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً
٢٤
وَرَدَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً وَكَفَى ٱللَّهُ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلْقِتَالَ وَكَانَ ٱللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً
٢٥
وَأَنزَلَ ٱلَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً
٢٦
وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً
٢٧
-الأحزاب

زاد المسير في علم التفسير

قوله تعالى: { مِنَ المؤمنين رجال صَدَقوا ما عاهدوا الله عليه } اختلفوا فيمن نزلت على قولين.

أحدهما: أنها نزلت في أنس بن النضر، قاله أنس بن مالك. وقد أخرج البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك قال: غاب عمِّي أَنَس بن النَّضْر عن قتال بدر، فلمَّا قَدِم قال: غِبْتُ عن أوَّل قتال قاتله رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين، لئن أشهدني اللّهُ عز وجل قتالاً لَيَرَيَنَّ اللّهُ ما أصنع، فلمّا كان يوم أُحُدٍ انكشف الناسُ، فقال: اللهم إِني أبرأُ إِليكَ ممَّا جاء به هؤلاء، يعني المشركين، وأعتذر إِليك ممَّا صنع هؤلاء، يعني المسلمين؛ ثم مشى بسيفه، فلقيه سعد بن معاذ، فقال: أي سعد، والذي نفسي بيده إِني لأجد ريح الجنة دون أُحُد، واهاً لريح الجنة. قال سعد: فما استطعتُ يا رسول الله ما صنع؛ قال أنس: فوجدناه بين القتلى به بِضْع وثمانون جِراحة، من ضربة بسيف، وطعنة برمح، ورَمْيَة بسهم، قد مثَّلوا به؛ قال: فما عرفناه حتى عرفتْه أختُه بِبَنانه؛ قال أنس: فكنّا نقول: أُنزلت هذه الآية { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه } فيه وفي أصحابه.

والثاني: أنها نزلت في طلحة بن عبيد الله، روى النزَّال بن سَبْرة عن عليّ عليه السلام أنهم قالوا له: حدِّثنا عن طلحة، قال: ذاك امرؤٌ نزلت فيه آية من كتاب الله تعالى { فمنهم من قضى نحبه } لا حساب عليه فيما يستقبل. وقد جعل بعض المفسرين هذا القدر من الآية في طلحة، وأولها في أنس. قال ابن جرير: ومعنى الآية: وَفَواْ لله بما عاهدوه عليه. وفي ذلك أربعة أقوال.

أحدها: أنهم عاهدوا ليلة العقبة على الإِسلام والنصرة.

والثاني: أنهم قوم لم يشهدوا بدراً، فعاهدوا الله أن لا يتأخَّروا بعدها.

والثالث: أنهم عاهدوا أن لا يفرُّوا إِذا لاقَواْ، فصَدَقوا.

والرابع: أنهم عاهدوا على البأساء والضرَّاء وحين البأس.

قوله تعالى: { فمنهم من قضى نَحْبه ومنهم من يَنْتَظِرُ } فيه ثلاثة أقوال.

أحدها: فمنهم من مات، ومنهم من ينتظر الموت، قاله ابن عباس.

والثاني: فمنهم من قضى عهده قُتل أو عاش. ومنهم من ينتظر أن يقضيَه بقتال أو صدق لقاءٍ، قاله مجاهد.

والثالث: فمنهم من قضى نَذْره الذي كان نذر، قاله أبو عبيدة. فيكون النَّحْب على القول الأول: الأَجْل؛ وعلى الثاني: العهد؛ وعلى الثالث: النَّذْر. وقال ابن قتيبة: { قضى نحبه } أي: قُتل، وأصل النَّحْب: النَّذْر، كأن قوماً نذورا أنهم إِن لَقُوا العدوَّ قاتَلوا حتى يُقتَلوا أو يَفتَح اللّهُ عليهم، فقُتِلوا، فقيل: فلان قضى نَحْبَه، أي: قُتِل، فاستعير النَّحْب مكان الأَجَل، لأن الأَجَل وقع بالنَّحْب، وكان النَّحْبُ سبباً له، ومنه قيل: للعطيَّة: «مَنْ»، لأن من أعطى فقد مَنَّ. قال ابن عباس: ممَّن قضى نَحْبه: حمزة بن عبد المطلب، وأنس بن النَّضْر وأصحابه. وقال ابن إِسحاق: { فمنهم من قضى نحبه } من استُشهد يوم بدر وأُحُدٍ، { ومنهم من ينتظرُ } ما وعد اللّهُ من نصره، أو الشهادة على ما مضى عليه أصحابه { وما بدَّلوا } أي: ما غيَّروا العهد الذي عاهدوا ربَّهم عليه كما غيَّر المنافقون.

قوله تعالى: { لِيَجْزِيَ اللّهُ الصَّادِقِين بِصِدقهم } وهم المؤمنون الذين صدقوا فيما عاهدوا { الله } عليه { ويعذِّبَ المنافقين } بنقض العهد { إِن شاء } وهو أن يُميتَهم على نفاقهم { أو يتوبَ عليهم } في الدنيا، فيخرجَهم من النفاق إِلى الإِيمان، فيغفر لهم.

{ وردَّ اللّهُ الذين كفروا } يعني الأحزاب، صدَّهم ومنعهم عن الظَّفَر بالمسلمين { بِغَيْظهم } أي: لم يَشْفِ صدورهم بِنَيْل ما أرادوا { لم ينالوا خيراً }. أي: لم يظفروا بالمسلمين، وكان ذلك عندهم خيراً، فخوطبوا على استعمالهم { وكفى اللّهُ المؤمنين القتال } بالريح والملائكة، { وأَنزل الذين ظاهروهم } أي: عاونوا الأحزاب، وهم بنو قريظة، وذلك أنهم نقضوا ما بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من العهد، وصاروا مع المشركين يداً واحدة.

وهذه الإِشارة إِلى قصتهم.

ذكر أهل العِلْم بالسِّيرة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لمَّا انصرف من الخندق وضع عنه اللأْمة واغتسل، فتبدَّى له جبريل، فقال: ألا أراك وضعت اللأْمة، وما وضعت الملائكة سلاحها منذ أربعين ليلة؟! إِن الله يأمرك أن تسير إِلى بني قريظة فانِّي عامد إِليهم فمزلزِل بهم حصونهم؛ فدعا عليّاً فدفع لواءه إِليه، وبعث بلالاً فنادى في الناس: إِن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم أن لا تصلُّوا العصر إِلا ببني قريظة، ثم سار إِليهم فحاصرهم خمسة عشر يوماً أشدَّ الحصار، وقيل: عشرين ليلة، فأَرسلوا إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَرْسِل إِلينا أبا لُبَابة بن عبد المنذر، فأرسله إِليهم، فشاوروه في أمرهم، فأشار إِليهم بيده: إِنه الذَّبْح، ثُمَّ ندم فقال: خنتُ اللّهَ ورسولَه، فانصرف، فارتبط في المسجد حتى أنزل الله توبته، ثم نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمَّر بهم رسول الله محمدَ ابن مَسْلمة، وكُتِّفوا، ونُحُّوا ناحيةً، وجُعل النساء والذُّرِّية ناحيةً. وكلَّمت الأوسُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أن يَهَبَهم لهم، وكانوا حلفاءهم، فجعل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الحُكْمَ فيهم إِلى سعد بن معاذ" ؛ هكذا ذكر محمد بن سعد. وحكى غيره: "أنهم نزلوا أوَّلاً على حكم سعد بن معاذ، وكان بينهم وبين قومه حلف، فَرَجَواْ أن تأخذه فيهم هوادة، فحكم فيهم أن يُقتل كلُّ مَنْ جَرَت عليه المَوَاسي، وتُسبى النساء والذراري، وتُقسم الأموال. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد حكمتَ بحُكم الله من فوق سبعة أرقعة؛ وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر بهم فأُدخلوا المدينة، وحُفر لهم أُخدود في السوق، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أصحابه، وأُخرجوا إِليه فضُربت أعناقهم، وكانوا ما بين الستمائة إِلى السبعمائة" .

قوله تعالى: { مِنْ صياصيهم } قال ابن عباس وقتادة: من حصونهم؛ قال ابن قتيبة: وأصل الصيَّاصي: قرون البقر، لأنها تمتنع بها وتدفع عن أنفسها؛ فقيل: للحصون: الصياصي، لأنها تَمنع، وقال الزجاج: كل قرن صيصية، وصيصية الديك: شوكة يتحصن بها.

قوله تعالى: { وقَذَفَ في قلوبهم الرُّعب } أي: ألقى فيها الخوف { فريقاً تقتُلون } وهم المُقاتِلة { وتأسِرون } وقرأ ابن يعمر، وابن أبي عبلة: { وتأسُرون } برفع السين { فريقاً } وهم النساء والذَّراري، { وأَورَثكم أرضَهم وديارهم } يعني عَقارهم ونخيلهم ومنازلهم { وأموالَهم } من الذهب والفضة والحُلِيّ والعبيد والإِماء { وأرضاً لم تطؤوها } أي: لم تطؤوها بأقدامكم بَعْدُ، وهي مما سنفتحها عليكم؛ وفيها أربعة أقوال.

أحدها: أنها فارس والروم، قاله الحسن.

والثاني: ما ظهر عليه المسلمون إِلى يوم القيامة، قاله عكرمة.

والثالث: مكة، قاله قتادة.

والرابع: خيبر، قاله ابن زيد، وابن السائب، وابن إِسحاق، ومقاتل.