قوله تعالى: {وإِنَّ مِنْ شِيعته لإِبراهيمَ} أي: من أهل دِينه ومِلَّته والهاء في "شِيعته" عائدة على نوح في قول الأكثرين؛ وقال ابن السائب: تعود إلى محمد صلى الله عليه وسلم، واختاره الفراء.
فإن قيل: كيف يكون من شيعته، وهو قبله؟.
فالجواب: أنه مِثل قوله
{ حَمَلْنا ذُرْيَّتهم } [يس: 41] فجعلها ذُرِيَّتهم وقد سبقَتْهم، وقد شرحنا هذا فيما مضى [يس: 41]. قوله تعالى: {إِذ جاءَ ربَّه} أي: صدَّقَ اللهَ وآمَنَ به {بقَلْبٍ سَليمٍ} من الشِّرك وكلِّ دَنَس، وفيه أقوال ذكرناها في [الشعراء: 89].
قوله تعالى: {ماذا تعبُدونَ}؟ هذا استفهام توبيخ، كأنه وبَّخهم على عبادة غير الله. {أَإِفْكاً}؟! أي: أتأفِكون إِفْكاً وتعبُدون آلهةً سِوى الله؟! {فما ظنُّكم بربِّ العالَمِينَ} إِذا لقِيتمُوه وقد عَبَدتُم غيره؟!. كأنه قال: فما ظنُّكم أن يصنع بكم.
{فنَظَرَ نَظْرَةً في النُّجومِ} فيه قولان.
أحدهما: [أنه] نظر في عِلم النجوم، وكان القومُ يتعاطَوْن عِلْم النُّجوم، فعاملهم من حيث هم، وأراهم أنِّي أَعلمُ من ذلك ما تعلَمونَ، لئلا يُنْكِروا عليه ذلك. قال ابن المسيّب: رأى نجماً طالعاً، فقال: إِنِّي مريض غداً.
والثاني: أنه نظر إلى النجوم، لا في عِلْمها.
فإن قيل: فما كان مقصوده؟.
فالجواب: أنه كان لهم عيد، فأراد التخلُّف عنهم لِيَكِيدَ أصنامَهم، فاعْتَلَّ بهذا القول.
قوله تعالى: {إِنِّي سقيم} من معاريض الكلام. ثم فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أن معناه سأَسْقُمُ، قاله الضحاك. قال ابن الأنباري: أَعْلَمَه اللهُ عز وجل أنَّه يَمْتَحِنُهُ بالسقم إِذا طلع نجمٌ يعرفه، فلما رأى النَّجم، عَلِم أنه سيَسْقُم.
والثاني: إِنِّي سقيم القلب عليكم إِذ تكهَّنتم بنجوم لا تضُرُّ ولا تَنْفَع، ذكره ابن الأنباري.
والثالث: أنه سَقُمَ لِعِلَّةٍ عرضتْ له، حكاه الماوردي. وذكر السديّ أنه خرج معهم إلى يوم عيدهم فلمّا كان ببعض الطريق، ألقى نفسه وقال: إِني سقيم أشتكي رجلي {فتولَّوا عنه مُدْبِرِينَ، فراغَ إِلى آلهتهم} أي: مال إِليها ـ وكانوا قد جعلوا بين يديها طعاماً لتبارك فيه على زعمهم ـ (فقال) إبراهيم استهزاءً بها {ألا تأكلُونَ}.
وقوله: {ضَرْباً باليمين} في اليمين ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها اليد اليمنى، قاله الضحاك.
والثاني: بالقُوَّة والقُدرة قاله السدي، والفراء.
والثالث: باليمين التي سبقت منه وهي قوله
{ وتاللهِ لأَكيدَنَّ أصنامَكم } } [الأنبياء: 57]، حكاه الماوردي. قال الزجاج: "ضَرْباً" مصدر؛ والمعنى: فمال على الأصنام يضربها ضَرْباً باليمين؛ وإِنما قال: {عليهم}، وهي أصنام، لأنهم جعلوها بمنزلة ما يُمَيِّز.
{فأقْبَلُوا إِليه يَزِفُّون} قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر، والكسائي: {يَزِفُّونَ} بفتح الياء وكسر الزاي وتشديد الفاء. وقرأ حمزة، والمفضَّل عن عاصم: {يُزِفُّونَ} برفع الياء وكسر الزاي وتشديد الفاء. وقرأ ابن السّميفع، وأبو المتوكل، والضحاك: {يَزِفُونَ} بفتح الياء وكسر الزاي وتخفيف الفاء. وقرأ ابن أبي عبلة، وأبو نهيك {يَزْفُونَ} بفتح الياء وسكون الزاي وتخفيف الفاء. قال الزجاج: أَعربُ القراءات فتح الياء وتشديد الفاء، وأصله من زفيف النَّعام، وهو ابتداء عَدْوِ النَّعام، يقال: زَفَّ النَّعام يَزِفُّ. وأمَّا ضم الياء، فمعناه: يصيرون إِلى الزَّفيف، وأنشدوا:
[تَمَنَّى حُصَيْنٌ أن يَسُودَ جِذاعَه] فأضحى حُصَيْنٌ قد أَذَلَّ وأَقْهَرَا
أي: صار إِلى القَهْر. وأمّا كَسْرُ الزّاي مع تخفيف الفاء، فهو من: وَزَفَ يَزِفُ، بمعنى أَسْرَعَ يُسْرِع، ولم يَعْرِفه الكسائي ولا الفراء، وعَرَفه غيرهما. قال المفسِّرون: بلغهم ما صنع إبراهيم، فأسرعوا، فلمّا انتَهَوْا إِليه، قال لهم محتجّاً عليهم: {أتَعْبُدونَ ما تَنْحِتُونَ} بأيديكم {واللهُ خَلَقَكم وما تَعْمَلونَ}؟!، قال ابن جرير: في {ما} وجهان.
أحدهما: أن تكون بمعنى المصدر، فيكون المعنى: واللهُ خَلَقَكم [وَعمَلَكم.
والثاني: أن تكون بمعنى "الذي" فيكون المعنى: واللهُ خَلَقَكم] وَخلَقَ الذي تعملونه بأيديكم من الأصنام؛ وفي هذه الآية دليل على أن أفعال العباد مخلوقة [لله].
فلمّا لَزِمَتْهم الحُجَّة {قالوا ابنوا له بُنْياناً} وقد شرحنا قصته في سورة [الأنبياء: 52-74] وبيَّنَّا معنى الجحيم في [البقرة: 119] والكّيْدُ الذي أرادوا به: إِحراقُه.
ومعنى قوله: {فجعلْناهم الأَسفَلِينَ} أن إبراهيم علاهم بالحُجَّة حيث سلَّمه الله من كيدهم وحلَّ الهلاكُ بهم.
(وقال) يعني إبراهيم {إنِّي ذاهبٌ إلى ربِّي} في هذا الذَّهاب قولان:
أحدهما: أنه ذاهب حقيقة، وفي وقت قوله هذا قولان:
أحدهما: أنه حين أراد هِجرة قومه؛ فالمعنى: إنِّي ذاهب إلى حيث أمرني ربِّي عز وجل {سيَهدينِ} إلى حيث أمرني، وهو الشام، قاله الأكثرون.
والثاني: حين أُلقي في النّار، قاله سليمان بن صُرَد. فعلى هذا في المعنى قولان:
أحدهما: ذاهب إِلى الله بالموت، سيَهدينِ إلى الجَنَّة.
والثاني: [ذاهب] إلى ماقضى [به] ربي، سيَهدين إِلى الخَلاص من النّار.
والقول الثاني: إِنِّي ذاهب إلى ربِّي بقلبي وعملي ونيَّتي، قاله قتادة.
فلما قَدِم الأرض المقدَّسة، سأل ربَّه الولدَ فقال {ربِّ هَبْ لي من الصَّالحِينَ} أي: ولداً صالحاً من الصَّالحينِ، فاجتزأ بما ذكر عمّا ترك، ومثله
{ وكانوا فيه من الزاهدين } [يوسف: 20] فاستجاب له، وهو قوله: {فبشَّرْناه بغُلامٍ حليمٍ} وفيه قولان: أحدهما: أنه إِسحاق.
والثاني: أنه إِسماعيل. قال الزجاج: هذه البِشارة تَدُلُّ على أنه مبشَّر بابنٍ ذَكَر، وأنه يبقى حتى ينتهيَ في السنّ ويوصَف بالحِلم.