التفاسير

< >
عرض

إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً
١
لِّيَغْفِرَ لَكَ ٱللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً
٢
وَيَنصُرَكَ ٱللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً
٣
-الفتح

زاد المسير في علم التفسير

قوله تعالى: { إِنّا فَتَحْنا لك فَتْحاً مُبِيناً.. } [الآية] سبب نزولها: أنه لمَا نزل قوله: { { وما أَدري ما يُفْعَلُ بِي ولا بِكُم } } [الأحقاف: 9] قال اليهود: كيف نتَّبع رجُلاً لا يَدري ما يُفْعَلُ به؟! فاشتدَّ ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية، رواه عطاء عن ابن عباس.

وفي المراد بالفتح أربعة أقوال.

أحدها: أنه كان يومَ الحديبية، قاله الأكثرون. قال البراء بن عازب: نحن نَعُدُّ الفتح بَيْعةَ الرِّضْوان. وقال الشعبي: هو فتح الحديبية، غُفِر له ما تقدَّم من ذَنْبه وما تأخَّر، وأُطعموا نخل خيبر، وبلغ الهَدْيُ مَحِلَّه، وظَهرت الرُّومَ على فارس، ففرح المؤمنون بظهور أهل الكتاب على المجوس قال الزهري: لم يكن فتحٌ أعظمَ من صُلح الحديبية، وذلك أن المشركين اختلطوا بالمسلمين فسمعوا كلامهم فتمكَّن الإِسلامُ في قلوبهم، وأسلم في ثلاث سنين خَلْقٌ كثير، وكَثُر بهم سواد الإِسلامُ. قال مجاهد: يعني بالفتح ما قضى اللهُ له من نحر الهَدْي بالحديبية وحَلْق رأسه. وقال ابن قتيبة: "إِنّا فَتَحْنا لك فتحاً مُبيناً" أي: قَضَيْنا لك قضاءً عظيماً، ويقال للقاضي: الفتَّاح. قال الفراء: والفتح قد يكون صُلحاً، ويكون أَخْذَ الشيء عَنْوةً، ويكون بالقتال. وقال غيره: معنى الفتح في اللغة: فتح المنغلق، والصُّلْح الذي جُعل مع المشركين بالحديبية كان مسدوداً متعذِّراً حتى فتحه الله تعالى.

الإِشارة إِلى قصة الحديبية:

روت عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في النَّوم كأن قائلاً يقول [له] لَتَدْخُلُنْ المسجد الحرام إِن شاء اللهُ آمنين، فأصبح فحدَّث الناس برؤياه، وأمرهم بالخروج للعُمْرة؛ فذكر أهلُ العِلْم بالسِّيَرِ أنَّه خرج واستنفر أصحابَه للعمرة، وذلك في سنة ست، ولم يخرج بسلاح إِلاّ السيوف في القُرُب، وساق هو وأصحابُه البُدْنَ، فصلَّى الظُّهر بـ "ذي الحُلَيْفة"، ثم دعا بالبُدْنِ فجُلِّلَتْ، ثم أشعرها وقلَّدها، فعل ذلك أصحابه، وأحرم ولبَّى. فبلغ المشرِكينَ خروجُه فأجمع رأيُهم على صدِّه عن المسجد الحرام، وخرجوا حتى عسكروا بـ "بَلْدَح" وقدَّموا مائتي فارس إِلى كُراع الغميم، وسار رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حتى دنا من الحديبية؛ قال الزجاج: وهي بئر، فسمِّي المكان باسم البئر؛ قالوا: وبينها وبين مكة تسعة أميال، فوقفت يَدَا راحلته فقال المسلمون: حَلْ حَلْ، يزجرونها، فأبَتْ فقالوا: خَلأَتْ القصْواءُ ـ والخِلاءُ في النّاقة مثل الحِران في الفَرَس. فقال: "ما خَلأَتْ، ولكن حَبَسها حابِسَ الفِيلِ، أما واللهِ لا يسألوني خُطَّةً فيها تعظيمُ حُرْمة اللهِ إِلاّ أعطيتُهم إِيّاها" ، ثم جرَّها فقامت، فولَّى راجعاً عَوْده على بَدْئه حتى نزل على ثمد من أثماد الحديبية قليلِ الماء، فانتزع سهماً من كنانته فغرزه فيها، فجاشت لهم بالرَّواء، وجاءه بُدَيْل بن ورقاء في ركب فسلَّموا وقالوا: جئناك من عند قومك وقد استنفروا لك الأحابيش ومن أطاعهم، يُقْسِمون، لا يُخَلُّون بينك وبين البيت حتى تُبيد خَضْراءَهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَمْ نأتِ لقتال أحَد إِنما جئنا لنطوف بهذا البيت، فمن صدَّنا عنه قاتلْناه" . فرجعَ [بديل] فأخبر قريشاً، فبعثوا عروة بن مسعود، فكلَّمه بنحو ذلك، فأخبر قريشاً، فقالوا: نَرُدُّه مِن عامِنا هذا ويَرْجِع من قابِل فيَدْخُل مكة ويطوف بالبيت، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمانَ بن عفان قال: "اذْهَبْ إِلى قريش فأَخْبِرْهم أنّا لَمْ نأتِ لقتالِ أحَدٍ، وإِنما جئنا زُوّاراً لهذا البيت، معنا الهدي ننحره وننصرف" ، فأتاهم فأخبرهم، فقالوا: لا كان هذا أبداً، ولا يَدخُلها العامَ، وبَلَغَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أنَّ عثمان قد قُتل، فقال: "لا نَبْرَحُ حتى نُناجِزَهم" ، فذاك حين دعا المسلمين إِلى بيعة الرّضوان، فبايعهم تحت الشجرة.

وفي عددهم يومئذ أربعة أقوال.

أحدها: ألف وأربعمائة، قاله البراء، وسلمة بن الأكوع، وجابر، ومعقل بن يسار.

والثاني: ألف وخمسمائة، روي عن جابر أيضاً، وبه قال قتادة.

والثالث: ألف وخمسمائة وخمس وعشرون، رواه العوفي عن ابن عباس.

والرابع: ألف وثلاثمائة، قاله عبد الله بن أبي أوفى. قال: وضَرَبَ يومئذ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بشماله على يمينه لعثمان، وقال: إِنه ذهب في حاجة الله ورسوله، وَجعَلَت الرُّسُل تختلف بينهم، فأجمعوا على الصُّلح، فبعثوا سهيل بن عمرو في عِدَّة رجال، فصالحه كما ذكرنا في [براءة: 7] فأقام بالحديبية بضعة عشر يوماً، ويقال: عشرين ليلة، ثم انصرف، فلمّا كان بـ { ضَجَنَان } نزل عليه: { إنّا فَتَحْنا لك فَتْحاً مبيناً }، فقال جبريل: يَهنيك يا رسول الله، وهنّأه المسلمون.

والقول الثاني: أن هذا الفتح فتح مكة، رواه مسروق عن عائشة وبه قال السدي. وقال بعض مَن ذَهَب إِلى هذا: إِنما وُعِد بفتح مكة بهذه الآية.

والثالث: أنه فتح خيبر، قاله مجاهد، والعوفي وعن أنس بن مالك كالقولين.

والرابع: أنه القضاء له بالإِسلام، قاله مقاتل. وقال غيره: حَكَمْنا لك بإظهار دِينك والنُّصرة على عدوِّك.

قوله تعالى: { لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ } قال ثعلب: اللام لام "كي"، والمعنى: لكي يجتمع لك [مع] المغفرة تمام النِّعمة في الفتح، فلمّا انضمَّ إلى المغفرة شيءٌ حادِثٌ، حَسُنَ معنى "كي". وغَلِط من قال: ليس. الفتح سببَ المغفرة. قوله تعالى { ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وما تأخَّرَ } قال ابن عباس: والمعنى "ما تقدَّم" في الجاهلية، و"ما تأخَّر" ما لم تعلمه، وهذا على سبيل التأكيد، كما تقول: فلان يَضْرِب من يلقاه ومن لا يلقاه.

قوله تعالى: { ويُتِمِّ نِعمتَه عليك } فيه أربعة أقوال.

أحدها: أن ذلك في الجنة.

والثاني: أنه بالنُبُوَّة والمغفرة، رويا عن ابن عباس.

والثالث: بفتح مكة والطائف وخيبر حكاه الماوردي.

والرابع: بإظهار دِينك على سائر الأديان، قاله أبو سليمان الدمشقي.

قوله تعالى: { ويَهْدِيَكَ صراطاً مستقيماً } أي: ويُثبِّتك عليه؛ وقيل: ويَهدي بك، { ويَنْصُرَكُ اللهُ } على عدوِّك { نَصْراً عزيزاً } قال الزجاج: أي: نَصْراً ذا عِزٍّ لا يقع معه ذُلٌّ.