التفاسير

< >
عرض

يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ حِينَ ٱلْوَصِيَّةِ ٱثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي ٱلأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ ٱلْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ ٱلصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِٱللَّهِ إِنِ ٱرْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ ٱللَّهِ إِنَّآ إِذَاً لَّمِنَ ٱلآَثِمِينَ
١٠٦
-المائدة

زاد المسير في علم التفسير

قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم } روى سعيد بن جبير عن ابن عباس. قال: كان تميم الدّاري، وعدي بن بداء يختلفان إِلى مكة، فصحبهما رجلٌ من قريش من بني سهم، فمات بأرض ليس فيها أحد من المسلمين، فأوصى إِليهما بتركته، فلما قدما، دفعاها إِلى أهله، وكتما جاماً كان معه من فضة، وكان مخوَّصاً بالذهب، فقالا: لم نره، فأُتي بهما إِلى النبي صلى الله عليه وسلم، فاستحلفهما بالله: ما كتما، وخلى سبيلهما. ثم إِن الجام وُجدَ عند قومٍ من أهل مكة، فقالوا: ابتعناه من تميم الدّاري، وعدي بن بداء، فقام أولياء السهمي، فأخذوا الجام، وحلف رجلان منهم بالله: إِن هذا الجام جام صاحبنا، وشهادتنا أحق مِن شهادتهما، وما اعتدينا، فنزلت هذه الآية، والتى بعدها. قال مقاتل: واسم الميِّت: بُزيلُ بن أبي مارية مولى العاص بن وائل السهمي، وكان تميم، وعدي نصرانيين، فأسلم تميم، ومات عديٌ نصرانياً. فأما التفسير، فقال الفراء: معنى الآية: ليشهدكم اثنان إِذا حضر أحدكم الموت. قال الزجاج: المعنى: شهادة هذه الحال شهادة اثنين، فحذف «شهادة»، ويقوم «اثنان» مقامهما. وقال ابن الأنباري: معنى الآية: ليشهدكم في سفركم إِذا حضركم الموت، وأردتم الوصيّة اثنان. وفي هذه الشهادة ثلاثة أقوال.

أحدها: أنها الشهادة على الوصيّة التي ثبتت عند الحكام، وهو قول ابن مسعود، وأبي موسى، وشريح، وابن أبي ليلى، والأوزاعي، والثوري، والجمهور.

والثاني: أنها أيمان الوصي بالله تعالى إِذا ارتاب الورثة بهما، وهو قول مجاهد.

والثالث: أنها شهادة الوصيّة، أي حضورها، كقوله: { { أم كنتم شهداء إِذ حضر يعقوب الموت } [البقرة: 133] جعل الله الوصي هاهنا اثنين تأكيداً، واستدل أرباب هذا القول بقوله: { فيقسمان بالله } قالوا: والشاهد لا يلزمه يمينٌ. فأما «حضور الموت» فهو حضور أسبابه ومقدماته. وقوله: { حين الوصية }، أي: وقت الوصية. وفي قوله: «منكم» قولان.

أحدهما: من أهل دينكم وملتكم، قاله ابن مسعود، وابن عباس، وسعيد ابن المسيب، وسعيد بن جبير، وشريح، وابن سيرين، والشعبي، وهو قول أصحابنا.

والثاني: من عشيرتكم وقبيلتكم، وهم مسلمون أيضاً، قاله الحسن، وعكرمة، والزهري، والسدي.

قوله تعالى: { أو آخران من غيركم } تقديره: أو شهادة آخرين من غيركم. وفي قوله: «من غيركم» قولان.

أحدهما: من غير ملتكم ودينكم، قاله أرباب القول الأول.

والثاني: من غير عشيرتكم وقبيلتكم، وهم مسلمون أيضاً، قاله أرباب القول الثاني، وفي «أوْ» قولان.

أحدهما: أنها ليست للتخيير، وإِنما المعنى: أو آخران من غيركم إِن لم تجدوا منكم، وبه قال ابن عباس، وابن جبير، والثاني: أنها للتخيير، ذكره الماوردي.

فصل

فالقائل بأن المراد بالآية شهادة مسلمين من القبيلة، أو من غير القبيلة لا يشك في إِحْكَامِ هذه الآية. فأما القائل بأن المراد بقوله: »أو آخران من غيركم« أهل الكتاب إِذا شهدوا على الوصيّة في السفر، فلهم فيها قولان.

أحدهما: أنها محكمة، والعمل على هذا باق، وهو قول ابن عباس، وابن المسيب، وابن جبير. وابن سيرين، وقتادة، والشعبي، والثوري، وأحمد في آخرين.

والثاني: أنها منسوخة بقوله: { وأشهدوا ذوي عدلٍ منكم } وهو قول زيد بن أسلم، وإِليه يميل أبوحنيفة، ومالك، والشافعي، قالوا: وأهل الكفر ليسوا بعدول، والأول أصح، لأن هذا موضع ضرورة كما يجوز في بعض الأماكن شهادة نساء لا رجل معهن بالحيض والنفاس والاستهلال.

قوله تعالى: { إِن أنتم ضربتم في الأرض } هذا الشرط متعلق بالشهادة، والمعنى: ليشهدكم اثنان إِن أنتم ضربتم في الأرض، أي: سافرتم. { فأصابتكم مصيبة الموت } فيه محذوفٌ، تقديره: وقد أسندتم الوصية إِليهما، ودفعتم إِليهما مالكم { تحبسونهما من بعد الصلاة } خطابٌ للورثة إِذا ارتابوا. وقال ابن عباس: هذا من صلة قوله: »أو آخران من غيركم«، أي: من الكفار. فأما إِذا كانا مسلمين، فلا يمين عليهما. وفي هذه الصلاة قولان.

أحدهما: صلاة العصر، رواه أبو صالح عن ابن عباس. وبه قال شريح، وابن جبير، وإِبراهيم، وقتادة، والشعبي.

والثاني: من بعد صلاتهما في دينهما، حكاه السدي عن ابن عباس، وقال به.

وقال الزجاج: كان الناس بالحجاز يحلفون بعد صلاة العصر، لأنه وقت اجتماع الناس، وقال ابن قتيبة: لأنه وقت يعظمه أهل الأديان.

قوله تعالى: { فيقسمان بالله } أي: فيحلفان { إِن ارتبتم } أي: شككتم يا أولياء الميت. ومعنى الآية: إِذا قدم الموصى إِليهما بتركة المتوفي، فاتهمهما الوارث، استحلفا بعد صلاة العصر: أنهما لم يسرقا، ولم يخونا. فالشرط في قوله: «إِن ارتبتم» متعلق بتحبسونهما، كأنه قال إِن إِرتبتم حبستموهما فاستحلفتموهما، فيحلفان بالله: { لا نشتري به } أي: بأيماننا، وقيل: بتحريف شهادتنا، فالهاء عائدة على المعنى. { ثمناً } أي: عرضاً من الدنيا { ولو كان ذا قربى } أي: ولو كان المشهود له ذا قرابة منا، وخصّ ذا القرابة، لميل القريب إِلى قريبه. والمعنى: لا نحابي في شهادتنا أحداً، ولا نميل مع ذي القربى في قول الزور { ولا نكتم شهادة الله } إِنما أُضيفت إِليه، لأمره بإقامتها، ونهيه عن كتمانها. وقرأ سعيد بن جبير: «ولا نكتم شهادةً» بالتنوين «الله» بقطع الهمزة وقصرها، وكسر الهاء، ساكنة النون في الوصل. وقرأ سعيد بن المسيب، وعكرمة «شهادة» بالتنوين والوصل منصوبة الهاء. وقرأ أبو عمران الجوني «شهادة» بالتنوين وإِسكانها في الوصل «الله» بقطع الهمزة وقصرها مفتوحة الهاء. وقرأ الشعبي، وابن السميفع «شهادة» بالتنوين وإِسكانها في الوصل «الله» بقطع الهمزة، ومدّها، وكسر الهاء. وقرأ أبوالعالية، وعمرو بن دينار مثله، إِلاّ أنهما نصبا الهاء. واختلف العلماء لأي معنىً وجبت اليمين على هذين الشاهدين، على ثلاثة أقوال.

أحدها: لكونهما من غير أهل الإسلام، روي هذا المعنى عن أبي موسى الأشعري.

والثاني: لوصيّةٍ وقعت بخط الميِّت وفَقَدَ ورثتُهُ بعضَ ما فيها، رواه أبو صالح عن ابن عباس.

والثالث: لأن الورثة كانوا يقولون: كان مال ميِّتنا أكثر، فاستخانوا الشاهدين، قاله الحسن، ومجاهد.