التفاسير

< >
عرض

سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ
١
هُوَ ٱلَّذِيۤ أَخْرَجَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ ٱلْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ وَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ ٱللَّهِ فَأَتَاهُمُ ٱللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي ٱلْمُؤْمِنِينَ فَٱعْتَبِرُواْ يٰأُوْلِي ٱلأَبْصَارِ
٢
وَلَوْلاَ أَن كَتَبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمُ ٱلْجَلاَءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ عَذَابُ ٱلنَّارِ
٣
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَآقِّ ٱللَّهَ فَإِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ
٤
مَا قَطَعْتُمْ مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَآئِمَةً عَلَىٰ أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ ٱللَّهِ وَلِيُخْزِيَ ٱلْفَاسِقِينَ
٥
-الحشر

زاد المسير في علم التفسير

قوله تعالى: { هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب } يعني: يهود بني النضير { من ديارهم } أي: من منازلهم { لأول الحشر } فيه أربعة أقوال.

أحدها: أنهم أول من حُشر وأُخرج من داره، قاله ابن عباس. وقال ابن السائب: هم أول من نفي من أهل الكتاب.

والثاني: أن هذا كان أول حشرهم، والحشر الثاني: إلى أرض المحشر يوم القيامة، قاله الحسن. قال عكرمة: من شك أن المحشر إلى الشام فليقرأ هذه الآية، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم يومئذ: اخرجوا، فقالوا: إلى أين؟ قال إلى أرض المحشر.

والثالث: أن هذا كان أول حشرهم. والحشر الثاني: نار تحشرهم من المشرق إلى المغرب قاله قتادة.

والرابع: أن هذا كان أول حشرهم من المدينة، والحشر الثاني: من خيبر، وجميع جزيرة العرب إلى أذرعات، وأريحا من أرض الشام في أيام عمر بن الخطاب، قاله مرة الهمْداني.

قوله تعالى: { ما ظننتم } يخاطب المؤمنين { أن يخرجوا } من ديارهم لعزِّهم، ومَنَعَتِهم، وحُصُونهم { وظَنُّوا } يعني: بني النضير أن حصونهم تمنعهم من سلطان الله { فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا } وذلك أَنَّه أمر نبيَّه بقتالهم وإِجلائهم، ولم يكونوا يظنون أن ذلك يكون، ولا يحسبونه { وقذف في قلوبهم الرعب } لخوفهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: لقتل سيدهم كعب بن الأشرف { يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين } قرأ أبو عمرو «يُخَرِّبون» بالتشديد. وقرأ الباقون «يَخْرِبُون». وهل بينهما فرق، أم لا؟ فيه قولان.

أحدهما: أن المشددة معناها: النقض والهدم. والمخففة معناها: يخرجون منها ويتركونها خراباً معطَّلة، حكاه ابن جرير، روي عن أبي عمرو أنه قال: إنما اخترت التشديد، لأن بني النضير نقضوا منازلهم، ولم يرتحلوا عنها وهي معمورة.

والثاني: أن القراءتين بمعنى واحد. والتخريب والإخراب لغتان بمعنى، حكاه ابن جرير عن أهل اللغة. وللمفسرين فيما فعلوا بمنازلهم أربعة أقوال.

أحدها: أنه كان المسلمون كلما ظهروا على دارٍ من دُورهم هدموها ليتسع لهم مكان القتال، وكانوا هم ينقبون دورهم، فيخرجون إِلى ما يليها، قاله ابن عباس.

والثاني: أنه كان المسلمون كلما هدموا شيئاً من حصونهم نقضوا ما يبنون به الذي خربه المسلمون، قاله الضحاك.

والثالث: أنهم كانوا ينظرون إلى الخشبة في منازلهم، أو العمود، أو الباب، فيستحسنونه، فيهدمون البيوت، وينزعون ذلك منها، ويحملونه معهم، ويخرب المؤمنون باقيها، قاله الزهري.

والرابع: أنهم كانوا يخربونها لئلا يسكنها المؤمنون، حسداً منهم، وبغياً، قاله ابن زيد.

قوله تعالى: { فاعتبروا يا أولي الأبصار } الاعتبار: النظر في الأمور، ليعرف بها شيء آخر من جنسها، و«الأبصار» العقول. والمعنى: تدبَّروا ما نزل بهم { ولولا أن كتب الله } أي: قضى { عليهم الجلاء } وهو خروجهم من أوطانهم. وذكر الماوردي بين الإخراج والجلاء فرقين.

أحدهما: أن الجلاء: ما كان مع الأهل والولد، والإخراج: قد يكون مع بقاء الأهل والولد.

والثاني: أن الجلاء لا يكون إلا لجماعة. والإخراج: قد يكون لواحد ولجماعة. والمعنى: لولا أن الله قضى عليهم بالخروج { لعذَّبهم في الدنيا } بالقتل والسبي، كما فعل بقريظة { ولهم في الآخرة } مع ما حلَّ بهم في الدنيا { عذابُ النَّار، ذلك } الذي أصابهم { بأنهم شاقُّوا الله } وقد سبق بيان الآية [الأنفال 13] و [محمد 32]. قال القاضي أبو يعلى: فقد دلت هذه الآية على جواز مصالحة أهل الحرب على الجلاء من ديارهم من غير سبي ولا استرقاق، ولا جزية، ولا دخول في ذمة، وهذا حكم منسوخ إِذا كان في المسلمين قوة على قتالهم، لأن الله تعالى أمر بقتال الكفار حتى يسلموا، أو يُؤدُّوا الجزية. وإِنما يجوز هذا الحكم إذا عجز المسلمون عن مقاومتهم فلم يقدروا على إدخالهم في الإسلام أو الذمة، فيجوز لهم حينئذ مصالحتهم على الجلاء من بلادهم. وفي هذه القصة دلالة على جواز مصالحتهم على مجهول من المال، لأن النبي صلى الله عليه وسلم صالحهم على أرضهم، وعلى الحلقة، وترك لهم ما أقلَّت الإبل، وذلك مجهول.

قوله تعالى: { ما قطعتم من لينة } سبب نزولها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرق نخل بني النضير، وقطع، فنزلت هذه الآية، أخرجه البخاري ومسلم من حديث ابن عمر. وذكر المفسرون أنه لما نزلت ببني النضير تحصَّنوا في حصونهم، فأمر بقطع نخيلهم، وإحراقها، فجزعوا، وقالوا: يا محمد زعمتَ أنك تريد الصلاح، أفمن الصلاح عقر الشجر، وقطع النخل؟ وهل وجدت فيما أُنزل عليك الفساد في الأرض؟ فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووجد المسلمون في أنفسهم من قولهم. واختلف المسلمون، فقال بعضهم: لا تقطعوا، فإنه مما أفاء الله علينا. وقال بعضهم: بل نغيظهم بقطعها، فنزلت هذه الآية بتصديق من نهى عن قطعه، وتحليل من قطعه من الإثم، وأخبر أن قطعه وتركه بإذن الله تعالى.

وفي المراد «باللينة» ستة أقوال.

أحدها: أنه النخل كلُّه ما خلا العجوة، رواه أبو صالح عن ابن عباس. وبه قال عكرمة، وقتادة، والفراء.

والثاني: أنه النخل والشجر، رواه عطاء عن ابن عباس.

والثالث: أنها ألوان النخل كلّها إلا العجوة، والبرنية، قاله الزهري، وأبو عبيدة، وابن قتيبة. وقال الزجاج: أهل المدينة يسمون جميع النخيل: الألوان، ما خلا البرني، والعجوة. وأصل «لينة» لِوْنة، فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها.

والرابع: أنها النخل كلُّه، قاله مجاهد، وعطية، وابن زيد. قال ابن جرير. معنى الآية: ما قطعتم من ألوان النخيل.

والخامس: أنها كرام النخل، قاله سفيان.

والسادس: أنها ضرب من النخل يقال لتمرها: اللون، وهي شديدة الصُّفْرة، ترى نواه من خارج، وكان أعجب ثمرهم إليهم، قاله مقاتل. وفي عدد ما قطع المسلمون ثلاثة أقوال.

أحدها: أنهم قطعوا وأحرقوا ست نخلات، قاله الضحاك.

والثاني: أحرقوا نخلة، وقطعوا نخلة، قاله ابن إسحاق.

والثالث: قطعوا أربع نخلات، قاله مقاتل.

قوله تعالى { فبإذن الله } قال يزيد بن رومان ومقاتل: بأمر الله.

قوله تعالى: { وليخزي الفاسقين } يعني اليهود. وخزيهم: أن يُريَهم أموالهم يتحكَّم فيها المؤمنون كيف أحبُّوا. والمعنى: وليخزي الفاسقين، أذن في ذلك، ودل على المحذوف قوله: { فبإذن الله }.