التفاسير

< >
عرض

وَأَنَّ ٱلْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ ٱللَّهِ أَحَداً
١٨
وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ ٱللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً
١٩
قُلْ إِنَّمَآ أَدْعُواْ رَبِّي وَلاَ أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً
٢٠
قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ رَشَداً
٢١
قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ ٱللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً
٢٢
إِلاَّ بَلاَغاً مِّنَ ٱللَّهِ وَرِسَالاَتِهِ وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً
٢٣
حَتَّىٰ إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً
٢٤
قُلْ إِنْ أَدْرِيۤ أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّيۤ أَمَداً
٢٥
عَٰلِمُ ٱلْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَداً
٢٦
إِلاَّ مَنِ ٱرْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً
٢٧
لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَىٰ كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً
٢٨
-الجن

زاد المسير في علم التفسير

قوله تعالى: { وأن المساجد لله } فيها أربعة أقوال.

أحدها: أنها المساجد التي هي بيوت الصلوات، قاله ابن عباس. قال قتادة: كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبِيَعَهُم أشركوا، فأمر الله عز وجل المسلمين أن يخلصوا له إذا دخلوا مساجدهم.

والثاني: الأعضاء التي يسجد عليها العبد، قاله سعيد بن جبير، وابن الأنباري، وذكره الفراء. فيكون المعنى، لا تسجدوا عليها لغيره.

والثالث: أن المراد بالمساجد هاهنا: البقاع كلُّها، قاله الحسن. فيكون المعنى: أن الأرض كلها مواضع للسجود، فلا تسجدوا عليها لغير خالقها.

والرابع: أن المساجد: السجود، فإنه جمع مسجد. يقال: سجدت سجوداً، ومَسْجِداً، كما يقال: ضربت في الأرض ضرباً، ومَضْرِباً، ثم يجمع، فيقال: المسَاجِد، والمضارِب. قال ابن قتيبة: فعلى هذا يكون واحدها: مَسْجَداً، بفتح الجيم. والمعنى: أَخْلِصُوا له، ولا تسجدوا لغيره. ثم رجع إلى ذكر الجن فقال تعالى: { وأنه لما قام عبد الله } يعني محمداً صلى الله عليه وسلم { يدعوه } أي: يعبده. وكان يصلي ببطن نخلة على ما سبق بيانه في [الأحقاف: 29] { كادوا يكونون عليه لِبَداً } قرأ الأكثرون: «لبداً» بكسر اللام، وفتح الباء. وقرأ هشام عن ابن عامر، وابن محيصن «لُبَداً» بضم اللام، وفتح الباء مع تخفيفها. قال الفراء: ومعنى القراءتين واحد. يقال: لِبَدة، ولُبَدة. قال الزجاج: والمعنى: كاد يركب بعضهم بعضاً. ومنه اشتقاق اللبد الذي يفترش. وكل شيء أضفته إلى شيء فقد لَبَّدته. وقرأ قوم منهم الحسن، والجحدري: «لُبَّداً» بضم اللام مع تشديد الباء. قال الفراء: فعلى هذه القراءة يكون صفة للرجال، كقولك: رُكَّعاً وركوعاً، وسُجَّداً وسجوداً. قال الزجاج: هو جمع لابد، مثل راكع، وركَّع. وفي معنى الآية ثلاثة أقوال.

أحدها: أنه إخبار الله تعالى عن الجن يحكي حالهم. والمعنى: أنه لما قام يصلي كاد الجن لازدحامهم عليه يركب بعضهم بعضاً، حِرْصاً على سماع القرآن، رواه عطية عن ابن عباس.

والثاني: أنه من قول الجن لقومهم لما رجعوا إليهم، فوصفوا لهم طاعة أصحاب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وائتمامهم به في الركوع، والسجود، فكأنهم قالوا: لما قام يصلي كاد أصحابه يكونون عليه لبداً. وهذا المعنى في رواية ابن جبير، عن ابن عباس.

والثالث: أن المعنى: لما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدَّعوة تلبَّدت الإنس والجن، وتظاهروا عليه، ليبطلوا الحق الذي جاء به، قاله الحسن، وقتادة، وابن زيد.

قوله تعالى: { قل إنما أدعوا ربي } قرأ عاصم، وحمزة: «قل إنما أدعو ربي» بغير ألف. وقرأ الباقون «قال» على الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال مقاتل: إن كفار مكة قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إنك جئت بأمر عظيم، لم يسمع بمثله فارجع عنه، فنزلت هذه الآية.

قوله تعالى: { قل لا أملك لكم ضراً } أي: لا أدفعه عنكم { ولا } أسوق إليكم { رَشَداً } أي: خيراً، أي: إن الله تعالى يملك ذلك، لا أنا { قل إني لن يجيرني من الله أحد } أي: إن عصيته لم يمنعني منه أحد، وذلك أنهم قالوا: اترك ما تدعو إليه، ونحن نجيرك { ولن أجد من دونه ملتحداً } وقد بيَّنَّاه في [الكهف: 27] { إلا بلاغاً من الله } فيه وجهان، ذكرهما الفراء.

أحدهما: أنه استثناء من قوله تعالى { لا أملك لكم ضراً ولا رشداً } إلا أن أبلغكم.

والثاني: لن يجيرني من الله أحد إِن لم أبلِّغ رسالته. وبالأول قال ابن السائب. وبالثاني: قال مقاتل. وقال بعضهم: المعنى: لن يجيرني من عذاب الله إلا أن أبلّغ عن الله ما أُرسِلْتُ، فذلك البلاغ هو الذي يجيرني { ومن يعص الله ورسوله } بترك الإيمان والتوحيد.

قوله تعالى: { حتى إذا رأَوْا } يعني: الكفار { ما يوعدون } من العذاب في الدنيا، وهو القتل. وفي الآخرة { فسيعلمون من أضعف ناصراً وأقل عدداً } أي: جنداً ونصراً، أهم، أم المؤمنون؟ { قل إن أدري } أي: ما أدري { أقريب ما توعدون } من العذاب { أم يجعل له ربي أمداً } أي: غاية وبُعْداً. وذلك لأن علم الغيب لله وحده { فلا يُظهِر } أي: فلا يُطلِع على غيبه الذي يعلمه أحداً من الناس { إِلا من ارتضى من رسول } لأن من الدليل على صدق الرسل إخبارَهم بالغيب. والمعنى: أن من ارتضاه للرسالة أطلعه على ما شاء من غيبه. وفي هذا دليل على أن من زعم أن النجوم تدل على الغيب فهو كافر. ثم ذكر أنه يحفظ ذلك الذي يطلع عليه الرسول فقال تعالى: { فإنه يسلك من بين يديه } أي: من بين يدي الرسول { ومِن خلفه رَصَداً } أي: يجعل له حَفَظَةً من الملائكة يحفظون الوحي من أن تَسْتَرِقَه الشياطين، فتلقيه إلى الكَهَنة، فيتكلَّمون به قبل أن يخبر النبي صلى الله عليه وسلم الناس. وقال الزجاج: يسلك من بين يَدَيْ الملَك ومن خلفه رصداً. وقيل يسلك من بين يدي الوحي. فالرُّصَّدُ من الملائكة يدفعون الشياطين عن أن تستمع ما ينزل من الوحي.

قوله تعالى: { ليعلم } فيه خمسة أقوال.

أحدها: ليعلم محمد صلى الله عليه وسلم أن جبرائيل قد بلَّغ إليه، قاله ابن جبير.

والثاني: ليعلم محمد صلى الله عليه وسلم أن الرسل قبله { قد أبلغوا رسالاتِ رِّبهم } وأن الله قد حفظها فدفع عنها، قاله قتادة.

والثالث: ليعلم مكذبو الرسل أن الرسل قد أبلغوا رسالات ربهم، قاله مجاهد.

والرابع: ليعلم الله عز وجل ذلك موجوداً ظاهراً يجب به الثواب، فهو كقوله تعالى: { ولمَّا يعلمِ الله الذين جاهدوا منكم } [آل عمران: 142] قاله ابن قتيبة.

والخامس: ليعلم النبيُّ أن الرسل قد أتته، ولم تصل إلى غيره، ذكره الزجاج. وقرأ رويس عن يعقوب { ليُعْلَم } بضم الياء على ما لم يسم فاعله. وقال ابن قتيبة: ويُقرأ { لتَعْلَم } بالتاء، يريد: لتعلم الجن أن الرسل قد بلَّغت عن إلههم بما رَجَوْا من استراق السمع { وأحاط بما لديهم } أي: علم الله ما عند الرسل { وأحصى كل شيء عدداً } فلم يفته شيء حتى الذَّرّ والخردل.