قوله تعالى: { لا أقسم } اتفقوا على أن المعنى «أقسم» واختلفوا في «لا» فجعلها بعضهم زائدة، كقوله تعالى:
{ لئلا يعلمَ أهلُ الكتاب } [الحديد: 29] وجعلها بعضهم رداً على منكري البعث. ويدل عليه أنه «أقسم» على كون البعث. قال ابن قتيبة: زيدت «لا» على نية الرد على المكذبين، كما تقول: لا والله ما ذاك، ولو حذفت جاز، ولكنه أبلغ في الرد. وقرأ ابن كثير إلا ابن فليح «لأقسم» بغير ألف بعد اللام، فجعلت لاما دخلت على «أقسم»، وهي قراءة ابن عباس، وأبي عبد الرحمن، والحسن، ومجاهد، وعكرمة، وابن محيصن، قال الزجاج: من قرأ «لأقسم» فاللام لام القسم والتوكيد. وهذه القراءة بعيدة في العربية، لأن لام القسم لا تدخل على الفعل المستقبل إلا مع النون، تقول: لأَضربنَّ زيداً. ولا يجوز: لأَضْرِبُ زيداً. قوله تعالى: { ولا أُقْسِمُ بالنَّفْس اللَّوامة } قال الحسن: أَقسمَ بالأولى ولم يقسم بالثانية. وقال قتادة: حكمها حكم الأولى.
وفي «النفس اللّوامة» ثلاثة أقوال.
أحدها: أنها المذمومة، قاله ابن عباس. فعلى هذا: هي التي تلوم نفسها حين لا ينفعها اللوم.
والثاني: أنها النفس المؤمنة، قاله الحسن. قال: لا يُرى المؤمن إلا يلوم نفسه على كل حال.
والثالث: أنها جميع النفوس. قال الفراء: ليس من نفس بَرَّةٍ ولا فاجرة إلا وهي تلوم نفسها، إن كانت عملت خيراً. قال: هلا زِدْت. وإن كانت عملت سوءاً قال: ليتني لم أفعل.
قوله تعالى: { أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه } المراد بالإنسان هاهنا: الكافر. وقال ابن عباس: يريد أبا جهل. وقال مقاتل: عدي بن ربيعة، وذلك أنه قال: أيجمع الله هذه العظام؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم له: «نعم»، فاستهزأَ مِنْه فنزلت هذه الآية. قال ابن الأنباري: وجواب القسم محذوف، كأنه: لتُبْعَثُنَّ، لَتُحَاسَبُنَّ، فدل قوله تعالى: «أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه» على الجواب، فحذف.
قوله تعالى: { بلى } وقف حسن. ثم يُبتدأ «قادرين» على معنى: بلى نجمعها قادرين. ويصلح نصب «قادرين» على التكرير بل فَلْيَحْسَبْنَا قادرين { على أن نُسَوِيَّ بَنَانَهُ } وفيه قولان.
أحدهما: أن نجعل أصابع يديه ورجليه شيئاً واحداً كخُفّ البعير، وحافر الحمار، فيعدم الارتفاق بالأعمال اللطيفة، كالكتابة والخياطة، هذا قول الجمهور.
والثاني: نقدر على أن نسوي بنانه كما كانت، وإن صغرت عظامها، ومن قدر على جمع صغار العظام، كان على جمع كبارها أقدر، هذا قول ابن قتيبة، والزجاج. وقد بينا معنى البنان في [الأنفال: 12].
قوله تعالى: { بل يريد الإنسان ليفجر أمامه } فيه قولان.
أحدهما: يكذب بما أمامه من البعث والحساب، قاله ابن عباس.
والثاني: يقدِّم الذنب ويؤخِّر التوبة، ويقول: سوف أتوب، قاله سعيد بن جبير. فعلى هذا: يكون المراد بالإنسان: المسلم. وعلى الأول: الكافر.
قوله تعالى: { يسأل أيان يوم القيامة } أي: متى هو؟ تكذيباً به، وهذا هو الكافر { فإذا برق البصر } قرأ أهل المدينة، وأبان عن عاصم «بَرَق» بفتح الراء، والباقون بكسرها. قال الفراء: العرب تقول: بَرِق البصر يبرَق، وبَرَق يبرُق، إذا رأى هولاً يفزع منه، و«بَرِق» أكثر وأجود قال الشاعر:
فَنَفْسَكَ فَانْعَ ولا تَنْعَني ودَاوِ الكُلُومَ ولاَ تَبْرَقِ
بالفتح. يقول: لا تفزع من هول الجراح التي بك. قال المفسرون: يشخص بصر الكافر يوم القيامة، فلا يَطْرِفُ لما يرى من العجائب التي كان يكذب بها في الدنيا، وقال مجاهد: برق البصر عند الموت. قوله تعالى: { وخسف القمر } قال أبو عبيدة: كَسَف وخَسَف بمعنى واحد، أي: ذهب ضوؤه.
قوله تعالى: { وجُمِع الشَّمسُ والقمر } إنما قال «جمع» لتذكير القمر، هذا قول أبي عبيدة. وقال الفراء: إنما لم يقل: جُمِعَتْ، لأن المعنى: جمع بينهما. وفي معنى الآية قولان.
أحدهما: جمع بين ذاتَيْهما. وقال ابن مسعود: جمعا كالبعيرين القرينين. وقال عطاء بن يسار: يُجْمَعَان ثم يُقْذَفَان في البحر. وقيل: يُقْذَفَان في النار. وقيل: يجمعان، فيطلعان من المغرب.
والثاني: جمع بينهما في ذهاب نورهما، قاله الفراء، والزجاج.
قوله تعالى: { يقول الإنسان } يعني: المكذِّب بيوم القيامة { أين المفر } قرأ الجمهور بفتح الميم، والفاء، وقرأ ابن عباس، ومعاوية، وأبو رزين، وأبو عبد الرحمن، والحسن، وعكرمة، والضحاك، وابن يعمر، وابن أبي عبلة: بكسر الفاء قال الزجاج: فمن فتح، فالمعنى: أين الفرار؟ ومن كسر، فالمعنى: أين مكان الفرار؟ تقول: جلست مجلَساً بالفتح، يعني: جلوساً. فإذا قلت: مجلِساً بالكسر، فأنت تريد المكان.
قوله تعالى: { كلا لا وزر } قال ابن قتيبة: لا ملجأ. وأصل الوزر: الجبل. الذي يمتنع فيه { إِلى ربك يومئذ المستقر } أي: المنتهى والمرجع.
{ يُنَبَّأ الإنسان يومئذ بما قَدَّم وأَخَّر } فيه ستة أقوال.
أحدها: بما قدَّم قبل موته، وما سنَّ من شيء فعُمِل به بعد موته، قاله ابن مسعود، وابن عباس.
والثاني: يُنَبَّأُ بأوَّل عمله وآخره، قاله مجاهد.
والثالث: بما قدَّم من الشَّرِّ وأخَّر من الخير، قاله عكرمة.
والرابع: بما قدَّم من فرض، وأخَّر من فرض، قاله الضحاك.
والخامس: بما قدَّم من معصية، وأخَّر من طاعة.
والسادس: بما قدَّم من أمواله، وما خلَّف للورثة، قاله زيد بن أسلم.
قوله تعالى: { بل الإنسان على نفسه بصيرة } قال الفراء: المعنى: بل على الإنسان من نفسه بصيرة، أي: رقباء يشهدون عليه بعمله، وهي: الجوارح. قال ابن قتيبة: فلما كانت جوارحه منه، أقامها مقامه. وقال أبو عبيدة: جاءت الهاء في «بصيرة» في صفة الذكر، كما جاءت في رجل «راوية»، و«طاغية»، وعلاَّمة.
قوله تعالى: { ولو ألقى معاذيره } في المعاذير قولان.
أحدهما: أنه جمع عذر، فالمعنى: لو اعتذر، وجادل عن نفسه، فعليه من يكذَّب عذره، وهي: الجوارح، وهذا قول الأكثرين.
والثاني: أن المعاذير جمع معذار، وهو: الستر. والمعاذير: الستور. فالمعنى: ولو أرخى ستوره، هذا قول الضحاك، والسدي، والزجاج، فيخرج في معنى «ألقى» قولان.
أحدهما: قال، ومنه
{ { فألْقَوا إليهم القول } [النحل: 36]، وهذا على القول الأول: والثاني: أرخى، وهذا على القول الثاني.