التفاسير

< >
عرض

بَرَآءَةٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى ٱلَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ
١
-التوبة

زاد المسير في علم التفسير

فصل في نزولها

هي مدنية باجماعهم، سوى الآيتين في آخرها: { { لقد جاءكم رسول من أنفسكم } [التوبة: 128] فانها نزلت بمكة. روى البخاري في «صحيحه» من حديث البراء قال: آخر سورة نزلت (براءة). وقد نُقل عن بعض العرب أنه سمع قارئاً يقرأ هذه السورة، فقال الأعرابي: إني لأحسب هذه من آخر ما نزل من القرآن. قيل له: ومن أين علمت؟ فقال: إني لأسمع عهوداً تُنْبَذُ ووصايا تُنَفَّذ.

فصل

واختلفوا في أول ما نزل من (براءة) على ثلاثة أقوال.

أحدها: أن أول ما نزل منها قوله { { لقد نصركم الله في مواطن كثيرة } [التوبة: 25] قاله مجاهد.

والثاني: { { انفروا خفافاً وثقالاً } [التوبة: 41] قاله أبو الضحى، وأبو مالك.

والثالث: { { إلاَّ تنصروه } [التوبة: 40] قاله مقاتل. وهذا الخلاف إنما هو في أول ما نزل منها بالمدينة، فانهم قد قالوا: نزلت الآيتان اللتان في آخرها بمكة.

فصل

ولها تسعة أسماء.

أحدها: سورة التوبة.

والثاني: براءة؛ وهذان مشهوران بين الناس.

والثالث: سورة العذاب، قاله حذيفة.

والرابع: المُقَشْقِشَة، قاله ابن عمر.

والخامس: سورة البَحوث، لأنها بحثت عن سرائر المنافقين، قاله المقداد بن الأسود.

والسادس: الفاضحة، لأنها فضحت المنافقين، قاله ابن عباس.

والسابع: المبعثِرة، لأنها بعثرت أخبار الناس، وكشفت عن سرائرهم، قاله الحارث بن يزيد، وابن إسحاق.

والثامن: المثيرة، لأنها أثارت مخازي المنافقين ومثالبهم، قاله قتادة.

والتاسع: الحافرة، لأنها حفرت عن قلوب المنافقين، قاله الزجاج.

فصل

وفي سبب امتناعهم من كتابة التسمية في أولها ثلاثة أقوال.

أحدها: رواه ابن عباس قال: قلت لعثمان بن عفان: ما حملكم على أن عمدتم إلى (الأنفال) وهي من المثاني، وإلى (براءة) وهي من المئين، فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما «بسم الله الرحمن الرحيم»؟ فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أُنزل عليه الشيء يدعو بعضَ مَن يكتب، فيقول: { "ضعوا هذا في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا" ، وكانت (الأنفال) من أوائل ما نزل بالمدينة، و(براءة) من آخر القرآن، وكانت قصتها شبيهة بقصتها، وقُبِض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يُبيِّن لنا أنها منها، فظننا أنها منها، فمن ثَمَّ قرنتُ بينهما ولم أكتب بينهما: «بسم الله الرحمن الرحيم». وذُكر نحو هذا المعنى عن أُبَيِّ بن كعب. قال الزجاج: والشبه الذي بينهما: أن في (الأنفال) ذكر العهود، وفي (براءة) نقضها. وكان قتادة يقول: هما سورة واحدة.

والثاني: رواه محمد بن الحنفية، قال: قلت لأبي: لِمَ لم تكتبوا في (براءة) «بسم الله الرحمن الرحيم»؟ فقال: يا بنيَّ، إن (براءة) نزلت بالسيف وإن «بسم الله الرحمن الرحيم» أمانٌ. وسئل سفيان بن عيينة عن هذا، فقال: لأن التسمية رحمة، والرحمة أمان، وهذه السورة نزلت في المنافقين.

والثالث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كتب في صلح الحديبية «بسم الله الرحمن الرحيم» لم يقبلوها وردُّوها، فما ردها الله عليهم، قاله عبد العزيز بن يحيى المكي.

فصل

فأما سبب نزولها، فقال المفسرون: أخذت العرب تنقض عهوداً بَنَتْها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمره الله تعالى بالقاء عهودهم إليهم، فأنزل (براءة) في سنة تسع، "فبعث رسول الله أبا بكر أميراً على الموسم ليقيم للناس الحج في تلك السنة، وبعث معه صدراً من (براءة) ليقرأها على أهل الموسم، فلما سار، دعا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم علياً فقال:اخرج بهذه القصة من صدر (براءة) وأذِّن في الناس بذلك فخرج عليٌّ على ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء حتى أدرك أبا بكر، فرجع أبو بكر فقال: يا رسول الله، أُنزِل في شأني شيء؟ قال: لا، ولكن لا يبلغ عني إلا رجل مني، أما ترضى أنك كنتَ صاحبي في الغار، وأنك صاحبى على الحوض؟ قال: بلى يا رسول الله، فسار أبو بكر أميراً على الحج، وسار علي ليؤذِّن بـ (براءة)" .

فصل

وفي عدد الآيات التي بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم من أول (براءة) خمسة أقوال. أحدها: أربعون آية، قاله عليٌّ عليه السلام. والثاني: ثلاثون آية، قاله أبو هريرة. والثالث: عشر آيات، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والرابع: سبع آيات، رواه ابن جريج عن عطاء. والخامس: تسع آيات، قاله مقاتل.

فصل

فان توهَّم مُتَوهِّمٌ أن في أخذ (براءة) من أبي بكر، وتسليمها إلى عليٍّ، تفضيلاً لعليٍّ على أبي بكر، فقد جهل، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أجرى العرب في ذلك على عادتهم. قال الزجاج: وقد جرت عادة العرب في عقد عهدها ونقضها، أن يتولىَّ ذلك على القبيلة رجل منها، وجائز أن تقول العرب إذا تلا عليها نقضَ العهد مَن ليس من رهط النبي صلى الله عليه وسلم: هذا خلاف ما نعرف فينا في نقض العهود، فأزاح النبي صلى الله عليه وسلم العلَّة بما فعل. وقال عمرو ابن بحر: ليس هذا بتفضيل لعليٍّ على أبي بكر، وإنما عاملهم بعادتهم المتعارفة في حَلِّ العقد، وكان لا يتولىَّ ذلك إلا السَّيِّدُ منهم، أو رجل من رهطه دَنِيّاً، كأخ، أو عم؛ وقد كان أبو بكر في تلك الحَجة الإمام، وعليٌّ يأتمُّ به، وأبو بكر الخطيب، وعليٌّ يسمع. وقال أبو هريرة: بعثني أبو بكر في تلك الحجة مع المؤذِّنين الذين بعثهم يؤذِّنون بمنى: أن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، فأذَّن معنا علي بـ (براءة) وبذلك الكلام. وقال الشعبي: بعث رسولُ الله علياً يؤذن بأربع كلمات: { ألا لا يحج بعد العام مشرك، ألا ولا يطوف بالبيت عريان، ألا ولا يدخل الجنة إلا مسلم، ألا ومن كانت بينه وبين محمد مدَّة فأجله إلى مدته، والله بريء من المشركين ورسوله }.

فصل

فأما التفسير، فقوله تعالى: (براءة) قال الفراء: هي مرفوعة باضمار «هذه»، ومثلُهُ: { { سورة أنزلناها } [النور: 2]. وقال الزجاج: يقال بَرِئْتُ من الرجل والدَّيْن براءةً، وبرئتُ من المرض، وبرأتُ أيضاً أبرأُ بُرءاً، وقد رووا: برأْتُ، أبرُؤ بروءاً. ولم نجد في مالامه همزة: فَعَلْتُ أفعل، إلا هذا الحرف. ويقال: بريت القلم، وكل شيء نحتَّه: أبريه بَرْياً، غير مهموز. وقرأ أبو رجاء، ومورق، وابن يعمر: (براءةً) بالنصب. قال المفسرون: والبراءة هاهنا: قطع الموالاة، وارتفاع العصمة. وزوال الأمان. والخطاب في قوله: { إلى الذين عاهدتم } لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمرادُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، لأنه هو الذي كان يتولَّى المعاهدة، وأصحابُه راضون؛ فكأنهم بالرضا عاهدوا أيضاً؛ وهذا عام في كل من عاهد رسولَ الله صلى الله عليه وسلم. وقال مقاتل: هم ثلاثة أحياء من العرب: خزاعة، وبنو مدلج، وبنو جذَيمة.